حرب المناعة

تتسابق القوى الاقتصادية الكبيرة مع الزمن ومع أنفسها والآخرين لصناعة لقاح ضد فيروس «كورونا» ينتج مناعة في الجسم البشري، من باب «وداوني بالتي كانت هي الداء»! وهناك حوالي 140 لقاحاً في المراحل الأولى من التطوير، وحوالي 24 لقاحاً يجري اختبارها الآن على البشر والجيوش في تجارب سريرية.

ويشك المتتبع لما يجري من شجون وجنون وفنون في العالم جراء هذا الفيروس، عن أصله وفصله وأمه وأبيه اللذين أنجباه وربياه في معاملهما، والآن يريدان أن يقاوماه، دون القضاء عليه، ويربحا من ورائه ثروات تعوض الفاقد، مستثمرة التخويف الإعلامي، والأرقام الإحصائية، ورمادية المستقبل وتوجساته.

والسؤال الذي يعشش في الأذهان كالخفافيش: هل كان ذلك الفيروس ضمن الاستعدادات لحروب جرثومية بيولوجية؟ وما حدود الصراع السياسي لإنتاج اللقاح؟ 

وهذا بالطبع لا ينفي وجود الفيروس وضرره، وواجب أخذ غاية الاحتياط والحذر.

حين أعلنت موسكو، في 11 أغسطس الماضي، عن إقرارها أول لقاح ضد «كوفيد- 19»، وسمته «سبوتنيك 5» (Sputnik V)، كانت رسالة لها مدلولها، ففي عام 1956م أطلق الاتحاد السوفييتي القمر الصناعي “سبوتنيك” محققاً النصر في سباق الفضاء، والآن ها هي روسيا تقول: إنها حققت قفزة في مجال الطب، ولكن يبقى التشكيك الذي قوبل به إعلانها تذكيراً بضراوة المنافسة الدولية، وفي هذا السباق الآن تبرز الاتهامات بسلوك الطرق الملتوية، والتجسس، والمجازفة غير الأخلاقية، والغيرة، وسط حديث عن “القومية في توزيع اللقاحات”.

في يوليو الماضي، اتهمت بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وكالات الاستخبارات الروسية بقرصنة أبحاث اللقاحات، ثم اتهمت وزارة العدل الأمريكية مواطنين صينيين بقرصنة أبحاث اللقاحات نيابة عن وكالات استخبارات صينية.

كما أثارت تقارير بشأن خطط البلدين تجربة اللقاح في صفوف القوات المسلحة مخاوف أخلاقية، إذ إن أفراد الجيش لا يتمتعون بالحرية في رفض أو قبول أخذ اللقاح، وكان عقار تطوره شركة “كان سينو” (CanSino) بالتعاون مع الجيش الصيني قد تم إقرار استخدامه من قبل أفراد الجيش، في يونيو الماضي، قبل بدء المرحلة الثالثة من التجارب.

وبالتأكيد توجد بين الدول الغربية نزعة قومية في توفير اللقاحات -مثلما نرى في الولايات المتحدة وبريطانيا- بالعمل على حجز جرعات أولية كبيرة من إمدادات اللقاحات لمواطنيها.

إن السبب وراء الرمزية السياسية التي أعطيت للقاح “كوفيد- 19” هو أن القوى العظمى تعتبره انعكاساً لبطولتها العلمية واعترافاً بتفوق نظامها السياسي(1)، ناهيك عن المردود المالي في حال بيعه.

إبادة بالأمراض 

نبهني أحدهم ونحن نتحدث عن الفيروس للبعد التاريخي، واستغلال انتفاء المناعة من قبل القوى «الاستعمارية»، الذين هم أجداد القوى الحالية، بطريقة لا إنسانية ولا أخلاقية، تذكرك بشيء مما يحدث الآن، خذ مثلاً تجربة مصل «كورونا» على بلاد فقيرة في الشرق الأوسط بلا مناعة، مستغلين تواطؤ الحكومات، وفقر الأفراد.

من الكتب المنشورة في هذا الشأن كتاب «الأوبئة والتاريخ.. المرض والقوة والإمبريالية»، حيث ذكر الكتاب أن الغزو الاستعماري كان أداة جبارة في إصابة شعوب الأمريكيتين بأمراض لم يكونوا يعرفونها؛ ما أدى إلى إبادة شعوبهما؛ حيث لم تكن هذه الشعوب البريئة النظيفة البعيدة عن أوبئة أوروبا تملك مناعة فعالة لمقاومة هذه الأمراض.

ويمثل لذلك بتدفق الآلاف من شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا والبرتغال) الحاملين لفيروس الجدري إلى أمريكا بعد عقدين من وصول «كولومبوس» إليها، فوصل هذا الوباء إلى أمريكا الوسطى والمكسيك ابتداء من عام 1518م، وإلى شعوب حضارة «إنكا» من الهنود الحمر الذين كانوا يعيشون في رخاء واستقرار، عام 1527م؛ مما أدى إلى إبادتها وهجرة العديد من القبائل، وإصابة قبائل أخرى، وهو ما أدى، حسب الكتاب، إلى انقراض 90% من شعوب الأمريكيتين الأصليين(2).

ومن القصص التي تروى عن جرائم الأوروبيين في إبادة الهنود الحمر قصة «البطانيات القاتلة»، فما هي؟

عندما حاول المستكشفون الإسبان احتلال البلاد، قدموا للهنود الحمر ملابس ملوثة بفيروس الجدري، ويعيد التاريخ نفسه حينما أرسلت القوات البريطانية عام 1763م خلال الحرب الفرنسية والهندية (البريطانيون في أمريكا ضد الفرنسيين والهنود الحمر) عدوى مرض الجدري إلى رؤساء القبائل الهندية؛ مما أدى إلى قتل معظم السكان الأصليين بسبب انتشار الوباء، حدث ذلك عندما أرسل قائد القوات البريطانية بطانيتين ومنديلاً ملوثة بالجدري إلى رؤساء هذه القبائل كهدية، حيث إن الجدري من الأمراض الفيروسية، شديدة العدوى.

ويشير الكتاب إلى العلاقة الوطيدة بين الإمبريالية ونشر الأوبئة، من جهة نشاط الشركات الكبرى التي كانت تشكل الأذرع الاقتصادية للإمبريالية، وكيف استثمرت في خلق بيئة وبائية سانحة لانتشار الأمراض، وذلك تحت اسم «تنمية الشعوب»، إذ عمدت هذه الشركات في غرب أفريقيا إلى إزالة الغابات واقتلاع الأشجار لاستعمالها في مد سكك الحديد في أوروبا، وتم إنشاء مساحات لمحاصيل جديدة مثل القطن وزيت النخيل والفول السوداني لا تطابق نوع التربة الموجودة؛ مما أدى إلى تخريب التربة وترك أشجار ضعيفة الجذور مكشوفة أمام عوامل التعرية المناخية، ونتيجة لتعرضها للحرارة الشديدة، وسقوط الأمطار الغزيرة، سرعان ما وهنت هذه التربة الرقيقة فوق قاعدة الصخور الصلبة، مما تسبب في شقوق وحفر مليئة بالماء، وفرت وضعاً مثالياً لتكاثر البعوض الناقل للحمى الصفراء والملاريا.

استعمار بيولوجي

كان نشر الأوبئة من الأساليب الفريدة التي استعملها الأوروبيون للقضاء على الشعوب الأصلية، فبحسب كتابه عن أرقام الشعوب الأصلية في أمريكا، للأمريكي «هنري دوبينز»، فقد تعرض هؤلاء لأكثر من 100 حرب جرثومية شاملة، منها 41 حرباً بالجدري، و25 بالسل، 17 بالحصبة، و10 بالأنفلونزا، و4 بالطاعون، والدفتريا والتيفوس والكوليرا.

استخدم الكاتب الدراسة المقارنة، مركزاً على تتبع ورصد وتحليل نمط وأسلوب التعاطي مع الوباء وطريقة مقاومته بين مجموعتين؛ المجموعة الأوروبية، والمجموعة الشرقية القديمة (الهند والصين ومصر)، فالمجتمعات الأوروبية التي استعملت تقنيات العلم الحديث، كانت لها أساليبها الخاصة في التحكم ومقاومة الأمراض المتوطنة فيها، وقد طورت تقنيات ومعارف نقلتها من علم الأوبئة العربي من المسلمين منذ القرن الرابع عشر، واستخدمتها في مقاومة أوبئة تعرضت لها بعد ذلك، في حين اضطرت المجتمعات القديمة، التي كانت لها تقنياتها الخاصة المتوارثة من ثقافتها في مواجهة الجدري والكوليرا والجذام، فبعد خضوعها لهيمنة الاستعمار والإمبريالية مند القرن التاسع عشر اضطرت إلى استخدام التقنيات الأوروبية، فوقعت تحت طائلة الهيمنة الإمبريالية(3).

ويلاحظ الكاتب المفارقة في زمن الوباء بين المجموعتين، ففي الوقت الذي يتوقف الوباء في أوروبا بفعل التقنيات التي تعتمد لمقاومته، يستمر الوباء في المجموعة المقابلة أربعين عاماً أو أكثر، وتظل هذه الدول تحت سطوة الارتهان للدول الإمبريالية، فهل سيتكرر هذا الآن؟

قال الاتحاد الدولي للنقل الجوي: إن شحن لقاح لفيروس «كورونا» (إن وجد) عبر أنحاء العالم سيكون «أكبر تحدٍّ في مجال النقل على الإطلاق»، وذكر أن العملية ستحتاج الاستعانة بما يعادل 8 آلاف طائرة من طراز «بوينج 747» العملاقة».

«الإيصال الآمن للقاحات سيكون مهمة القرن بالنسبة لصناعة الشحن الجوي الدولية»، ويحتاج نقلها إلى المحافظة على درجة حرارة تتراوح بين درجتين و8 درجات مئوية، وبالتالي لا تصلح كل الطائرات لذلك، كما أن بعض اللقاحات قد تحتاج إلى أن تُنقل في درجة التجمد، والرحلات الجوية إلى مناطق معينة من العالم، بما في ذلك بعض المناطق في جنوب شرق آسيا، ستكون ضرورية جداً، حيث إن هذه المناطق تفتقر للقدرات على إنتاج اللقاحات.

وتوزيع لقاح في عموم أفريقيا سيكون مستحيلاً في الوقت الحاضر بالنظر إلى العجز في قدرات الشحن، وحجم المنطقة، والتعقيدات الخاصة بالمعابر الحدودية(4)، معنى هذا بقاء الفيروس نشيطاً في الدول الفقيرة، أو تزداد فقراً لشراء اللقاح، مع تعطيل الاقتصاد، وتستمر حرب المناعة.

الهوامش

(1) لقاح «كورونا»: ما بين ألاعيب قذرة وتجسس ومجازفات غير أخلاقية، بي بي سي، 24 أغسطس 2020م.

https://www.bbc.com/arabic/features-53881575

(2)  Epidemics and History: Disease, Power and Imperialism, Sheldon Watts. Yale University Press, 1999.

(3)  Their Number Become Thinned: Native American Population Dynamics in Eastern North America, Henry Dobyns. University of Tennessee Press, 1983.

(4)  فيروس “كورونا”: نقل لقاح عبر العالم “يتطلب 8000 طائرة عملاقة”، بي بي سي، 10 سبتمبر 2020م.

https://www.bbc.com/arabic/business-54100593

Exit mobile version