الإستراتيجية الفرنسية بين القصور الذاتي وعجز «ماكرون»

تحول «الكتاب الأبيض الفرنسي للدفاع والأمن» منذ ظهر في العام 1974م إلى إستراتيجية تحدد الخطوط العريضة لرؤساء الجمهورية في فرنسا تجاه الملفات الخارجية.

الكتاب خضع لتعديلات متكررة تبعت التحولات الكبرى؛ كانهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة عام 1994م، استبعد فيه انضمام تركيا وأوكرانيا للاتحاد الأوروبي في حينها، وفي العام 2008م أعيدت كتابته لتتناسب مع التحديات الجديدة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية والتدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان.

«الكتاب الأبيض الفرنسي» صيغت نسخته الأخيرة في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق «فرانسوا أولاند»، عام 2013م، لتتضمن أهم التحديات المستجدة عقب اندلاع «ثورات الربيع العربي»؛ لتضاف إلى التحديات التي تم تشخيصها في عام 2008م، وركزت على الأزمة المالية العالمية والإرهاب والطاقة وصعود الصين كقوة اقتصادية.

النسخة المعدلة للعام 2013م فُعّل فيها المجال الحيوي لفرنسا الممتد 7000 كم من نقطة المركز الممثل بالجمهورية الفرنسية، مطلقة العنان لسياسة تدخلية بدأت في ليبيا، عام 2011م، وامتدت نحو مالي، عام 2014م، لتتوج في عهد الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» بتوسيع حضور فرنسا العسكري شرق المتوسط وانخراطها في صراعات الطاقة وترسيم الحدود البحرية بين اليونان وتركيا، ومحاولاتها تدعيم نفوذها في لبنان وسورية والعراق.

الرؤية الإستراتيجية الفرنسية 

حدد «الكتاب الأبيض» للعام 2008م التهديدات والتحديات للسياسة الفرنسية، بدءاً بالقوى الإقليمية الصاعدة والطاقة والإرهاب؛ فكان امتداداً لرؤية الرئيس الفرنسي الديجولي «جاك شيراك» التي عبر عنها في خطاب له، في يناير 2005م؛ لتخضع مجدداً للمراجعة بعيد الأزمة الاقتصادية العالمية، عام 2008م.

ورغم تحديات الأمن السيبراني والاعتراف بصعود الصين الاقتصادي وتنامي أهمية جنوب شرق آسيا في السياسة الدولية والاقتصادية؛ فإن اهتمام فرنسا بقي منصباً على منطقة الساحل والصحراء وحوض المتوسط وشرق أوروبا؛ محذراً من ضعف وهشاشة دول شرق أوروبا والمتوسط وإمكانية انهيارها؛ فهي المجال الحيوي القريب الذي يتهدد أمن واستقرار فرنسا، ويتطلب دعماً وإسناداً للدول الهشة في مواجهة القوى الإقليمية والدولية؛ وهنا تبرز اليونان في السياسة الفرنسية كنقطة ارتكاز لردع أنقرة، والحد من نفوذها شرق المتوسط، والاتفاق النووي «5+1» لاحتواء إيران وردعها غرب آسيا في لبنان والعراق وسورية.

النزعة التدخلية التي تم إقرارها في الكتاب الأبيض تعد امتداداً للرؤية المعلنة للعام 1994م التي اشترطت ألا تستهدف التدخلات الخارجية الشعوب بحسب الدستور الفرنسي، وأن تكون بصيغة جماعية مع شركاء دوليين عبر «الناتو» أو الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وهو ما لم تلتزم به فرنسا بسبب القصور الذي تمتعت به هذه الإستراتيجية والفجوة المتنامية بينها وبين شركائها في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسهم إيطاليا وحلفاؤها في «الناتو» خاصة الولايات المتحدة التي أبدت أكثر من مرة رغبتها في الانسحاب من سورية والعراق وأفغانستان؛ متجاهلة مصالح فرنسا وتوجهاتها الإستراتيجية، ورافعة بذلك الكلف على الجمهورية الفرنسية التي تتعاطى وحيدة مع رؤيتها بعيداً عن حلفائها وشركائها الغربيين.

منذ لحظة وصول «ماكرون» إلى سدة الرئاسة، في مايو 2017م، طغى المشهد الداخلي على أدائه الاقتصادي ذي النزعة الليبرالية المنحازة لرجال المال والأعمال؛ إذ لم يمض عام واحد على وصوله إلى قصر الإليزيه حتى اندلعت احتجاجات «السترات الصفراء»، في مايو 2018م؛ وهو ما قوض مكانته كرئيس منتخب تفوق على اليسار واليمين بكافة أطيافه؛ إذ اتهمه المحتجون باستهداف الطبقة المتوسطة وتجاهل الفقراء والتعامل بتعالٍ مع الطبقة العاملة نتيجة اتباعه سياسة تحابي رجال المال والأعمال.

 ولم تقتصر إخفاقات «ماكرون» على السياسة الداخلية، إذ سرعان ما شق الإخفاق طريقه إلى السياسة الخارجية؛ فدخل في مواجهات دبلوماسية مع شركائه في الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم قادة اليمين الإيطالي، فالنفوذ الفرنسي في أفريقيا عصفت به النكسات خلال الفترة الممتدة من تسلمه الرئاسة إلى عام 2020م، متأثراً بتصاعد الخلافات والتنافس بين فرنسا وإيطاليا في الملف الليبي، وملف الهجرة والصحراء والساحل، مهدداً بمزيد من الانقسامات والتشرذم داخل الاتحاد الأوروبي الذي عصفت فيه الأزمات؛ بدءاً من إعلان بريطانيا خروجها من الاتحاد الأوروبي، وليس انتهاء بأزمة تفشي وباء «كورونا» المستجد، التي أطاحت برئيس وزرائه «إدوارد فيليب»، في يوليو الماضي، وسبقتها هزيمة ساحقة لحزب الرئيس (الجمهورية إلى الأمام) في الانتخابات المحلية، في يونيو الماضي، لصالح الخضر واليسار الفرنسي؛ مفعلة بذلك عناصر القصور الذاتي في السياسة الفرنسية التي باتت رهينة رؤى شركائها الأوروبيين.

دوافع التوجه نحو الشرق

دفع ضيق أفق الرؤية الفرنسية وطبيعة الأزمة الداخلية التي عانى منها الرئيس «ماكرون» إلى التحالف مع قوى نفطية عربية؛ أملاً بالحصول على عقود تسلح ضخمة والمزيد من الصفقات التجارية، إلى جانب الوعود بتمويل حربه في مالي ودول الساحل ودعم نفوذه في ليبيا؛ ما قيد خياراته، وفاقم أزمته السياسية الخارجية والداخلية التي عكستها إخفاقات وحالة تخبط وتهور في السياسة الخارجية تجاوزت المحددات والضوابط التي رسمها الكتاب الأبيض والدستور الفرنسي.

فالتحالفات والشراكات التي أنشأها «ماكرون» لدعم خليفة حفتر في ليبيا وتعزيز سياسته في منطقة الساحل والصحراء لم تعوض فرنسا عن الشركاء الأوروبيين و»الناتو»، ولم تفلح في تجاوز قيود الشرعية الدولية؛ إذ أدت هذه العناصر الدور الأبرز في تفاقم القصور الإستراتيجي الذي حاول الكتاب الأبيض تجنبه من خلال الدعوة للتحرك الجماعي الذي فشل «ماكرون» بتحقيقه.

ويمكن ملاحظة تفاعل هده العناصر من خلال المؤشرات التالية:

1- تضارب المصالح الفرنسية الإيطالية كان العنصر الأكثر تأثيراً في صياغة السياسة الخارجية والأمنية الفرنسية تجاه ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء؛ إذ أعاق قدرتها على إشراك دول الاتحاد في الإستراتيجية الفرنسية ليبقى اعتمادها على دول «جي 5» (مالي وموريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد) إلى جانب دعم مالي عربي محدود.

2- الإخفاق الفرنسي في مالي وليبيا سار بالتوازي مع تعاظم الفجوة بين التحركات العسكرية لقوات «أفريكوم» الأمريكية في منطقة الساحل والصحراء والقوات الفرنسية العاملة في مالي، المقدرة بـين 3000 و4000 عنصر من القوات الفرنسية؛ إذ أوقفت وزارة الدفاع الأمريكية دعمها الاستخباري واللوجستي لعملية «برخان» الفرنسية في مالي، في حين لم تقدم الدعم السياسي أو العسكري للجنرال خليفة حفتر في هجومه على العاصمة طرابلس في ليبيا؛ بسبب طبيعة الشراكة التي جمعته بالروس، خصوصاً شركة «فاغنر» مقابل تعاون القوات الأمريكية مع حكومة الوفاق الشرعية لمكافحة الإرهاب في سرت وسائر الغرب الليبي.

3- الإخفاق الفرنسي لم يأت حصيلة الخروج الفرنسي على الإجماع الأوروبي والابتعاد عن «الناتو»؛ إذ شمل عجزها عن التعاون مع حكومة الوفاق الشرعية لأسباب أيدولوجية فضلاً عن تعارض طموحاتها مع قرارات الأمم المتحدة بحظر السلاح في ليبيا؛ لتجد فرنسا نفسها وحيدة مع حلفاء عرب وأفارقة تتنازعهم مصالح متضاربة ومتعارضة مع الشركاء الإقليميين في الجزائر والمغرب وليبيا، إلى جانب الشركاء الدوليين الروس والصينيين والأمريكيين الذين وجدوا ثغرات مكنتهم من تعزيز نفوذهم في ليبيا والساحل والصحراء على حساب فرنسا ونفوذها.

4- فشل «ماكرون» في إدارة الملف الليبي لم يمنعه من التحرك بعيداً عن الحلفاء في الاتحاد الأوروبي و»الناتو» بتوسيع دائرة الاشتباك لتشمل تركيا شرق المتوسط وإيران غرب آسيا، ليتصدر لغة التصعيد والمواجهة شرق المتوسط وغرب آسيا في جزيرة قبرص ولبنان والعراق دون إسناد أوروبي فعلي، معتمداً على أثينا كحليف في مواجهة تركيا في المتوسط، وعلى بغداد لمواجهة نفوذها في سورية والعراق، مقابل عجز كامل عن التعامل مع إيران في لبنان والعراق وسورية.

لا يمكن عزل تحركات «ماكرون» شرق المتوسط عن النكسات المتتالية التي لحقت بإستراتيجية بلاده في منطقة الساحل والصحراء التي استثمرت فيها باريس الكثير، كما لا يمكن عزلها عن الخسارة الكبيرة في الانتخابات المحلية لحزبه «الجمهورية إلى الأمام»؛ التي عكست تراجع شعبيته بُعيد انطلاق حركة «السترات الصفراء»، ومن ثم الاستياء العام من إدارته لملف وباء «كورونا»؛ ما استدعاه لإقالة رئيس الوزراء.

جهود «ماكرون» لتجاوز عقدة الفشل تحكمت في شكل وجوهر السياسة الخارجية الفرنسية التي باتت رهينة بأزمته وعجزه عن تحقيق الرؤية السياسية الفرنسية، كما هي رهينة القصور الذاتي للإستراتيجية الفرنسية التي تمت صياغتها وتعديلها أكثر من مرة دون فاعلية تُذكر؛ فعوامل القصور الذاتي؛ سواء الداخلية -الممثلة بالبيئة الحزبية والاجتماعية الفرنسية المتقلبة والمنقسمة- أم بالبيئة الخارجية -فرنسا في الاتحاد الأوروبي و»الناتو»- أعاقت قدرة باريس على إدارة فاعلة لسياساتها الخارجية؛ وهو ما فاقم أداء «ماكرون» وتوجهاته ذات النزعة الصدامية مع بيئته الداخلية والإقليمية مهدداً باريس بتكرار الفشل شرق المتوسط وغرب آسيا.

Exit mobile version