المنهج النبوي في بث البشارات (2-2)

نستكمل في هذه الحلقة ما بدأناه من الحديث عن المنهج النبوي في بث البشارات؛ حيث ذكرنا أربعة معالم من هذا المنهج.

خامسا- تبشير من اتصف بحميد الخصال:

لقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم فئات من المؤمنين اختصت بمناقب حميدة بالثواب الجزيل يوم القيامة، وهذا كثير في السنة النبوية، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

 

سادسا- البشارات النبوية وقت الكربات:

       تتجلى قيمة البشارات عند اشتداد الكربات، فإنها تنزل حينئذ بردا وسلاما على قلوب المؤمنين، الواثقين بوعد الله المتين، وهذا منهج رسخه الله عز وجل في كتابه المبين، وأكده النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف عديدة، كان الصحابة رضوان الله عليهم في أمس الحاجة فيها إلى بشارات تثبتهم على صراط الله المستقيم، وهذه بعض المواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:

*  تبشير المستضعفين المعذبين بالجنة يوم القيامة:

لما تسلطت قريش على من أسلم واتبع النبي صلى الله عليه وسلم وثبت كل قبيلة على من فيها من ضعفاء المسلمين، فحبسوهم وعذبوهم ونكلوا بهم، ومن ذلك تنكيل أمية بن خلف ببلال الحبشي رضي الله عنه، وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه سمية إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “أبشروا آل عمار  وآل ياسر فإن موعدكم الجنة”  ، وفي رواية: “صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة”  ، وهذه البشارة العظيمة بثواب الآخرة والنعيم المقيم في دار الخلود جاءت في أشد أوقات الفتنة والتعذيب، فثبتت هؤلاء المستضعفين على دينهم وإن نطق بعضهم بكلمة الكفر تحت الإكراه، إلا أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان، قال تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [النحل: 106].

* تبشير المستضعفين المعذبين بالنصر في الدنيا:

لم تكن البشارات النبوية قاصرة على الفوز بالجنة في الآخرة، بل بشرهم بالظفر في الدنيا أيضا، باتساع الإسلام وانتشاره في الآفاق، وبظهور المسلمين وانتصارهم على عدو الله وعدوهم، فهذا خباب رضي الله عنه يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر الوجه، فقال: “قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”. وهذه البشارة العظيمة بالظفر والتمكين في الدنيا، التي تؤكد حتمية ظهور الإسلام على الشرك وسائر الشرائع، واتساع رقعته في الآفاق، جاءت وكان أصحاب النبي صلى يعذبون ويسحلون على رمضاء المكة ويجوعون ويعطشون، يوصيهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم على هذه الحال بعدم الاستعجال، بعد أن بشرهم بظهور الإسلام وظفر المسلمين.

وكانت هذه البشائر لا تزيد المشركين والمنافقين إلا سخرية واستهزاء، وإعراضا وضلالا، قال الغزالي: “وقد اتخذ المستهزئون من هذه الثقة مادة لسخريتهم وضحكهم، كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يتغامزون بهم ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض الذين سيغلبون غدا على مُلك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون”.

وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أبا بكر الصديق رضي الله عنه في طريق الهجرة حين اختبآ في غار  ثور، وقد وصل الطلب إليهم على باب الغار، بحيث لو طأطأ أحدهم رأسه ونظر إلى قدميه لرآهما، حتى اشتد حزن أبي بكر رضي الله عنه شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم، في هذه الشدة والتهديد الخطير، تأتي البشارة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إن الله معنا}، لتنزل على قلبه السكينة، قال تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40]، بشره بمعية الله وتأييده، ومن كان الله معه فاز حتما، لأنه موصول بقوة الله القوي العزيز الذي لا يُغلب، فإن كلمة الله هي العليا، وهاهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينقل الحدث فيقول: ” قلتُ : يا رسولَ اللهِ – ونحن في الغار-: لو أنَّ رجلا اطَّلع لرآنا، فقال: ما ظنُّك باثنَين اللهُ ثالثُهما؟”. قال صاحب الظلال: “ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس، وكانت الهزيمة للذين كفروا الذل والصغار (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى)، وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة (وكلمة الله هلي العليا)”  .

ومن أبرز تجليات هذ المنهج النبوي الرشيد في تبشير المؤمنين بالظفر رغم اشتداد المحن، ما كان من بشارات سارة للمؤمنين يوم الخندق، فعندما شرعوا بحفر الخندق يقول عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه: ظهرت لنا صخرةٌ بيضاءُ مروةٌ فكسَرت حديدَنا وشقَّت علينا، فذهب سلمانُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في قُبَّةٍ تركيَّةٍ، فأخبره عنها فجاء فأخذ المعولَ من سلمان، فضرب الصخرةَ ضربةً فصدَعها وبرَقت منها برقةً أضاءت ما بين لابتَيها؛ يعني المدينة، حتى كأنها مصباحٌ في جوفِ ليلٍ مظلمٍ، فكبَّر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تكبيرَ فتح ٍوكبَّر المسلمون، ثم ضربها الثانيةَ فكذلك، ثم الثالثةَ فكذلك، وذكر ذلك سلمانُ والمسلمون لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسألوه عن ذلك النورِ، فقال: لقد أضاء لي من الأولى قصورُ الحَيرةِ ومدائنُ كِسرى كأنها أنيابُ الكلابِ، فأخبرني جبريلُ أنَّ أمتي ظاهرةٌ عليها، ومن الثانيةِ أضاءت القصورُ الحُمرُ من أرضِ الرومِ كأنها أنيابُ الكلابِ، وأخبرني جبريلُ أنَّ أمَّتي ظاهرةٌ عليها، ومن الثالثةِ أضاءت قصورُ صنعاءَ كأنها أنيابُ الكلابِ، وأخبرني جبريلُ أنَّ أمتي ظاهرةٌ عليها، فأبشِروا. واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعودٌ صادقٌ. قال: ولما طلعتِ الأحزابُ قال المؤمنون (هذا ما وعدنا اللهُ ورسولُه وصدق اللهُ ورسولُه وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا) [الأحزاب: 22]، أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب. قال ابن كثير: ومعنى قوله: (وما زادهم) أي ذلك الحال والضيق والشدة (إلا إيمانا) بالله (وتسليما) أي انقيادا لأوامره وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقال المنافقون يخبركم أنه يبصر من يثربَ قصورَ الحَيرةِ ومدائنَ كسرى، وإنها تُفتح لكم وأنتم تحفرون الخندقَ لا تستطيعون أن تبرُزوا، فنزل فيهم: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا)   [الأحزاب: 12].

 

_____________________________________

(*) عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج.

 

Exit mobile version