أمام معطيات وتقديرات علمية: كيف يتعايش العالم مع “كورونا الموسمي”؟

حتى ساعة كتابة هذه السطور، 24 سبتمبر 2020، علم عن نحو 32 مليون حالة إصابة مؤكدة لمرضى كورونا ونحو 980 ألف وفاة بالفيروس في العالم. دول عديدة تعيش هذه الأيام “موجة ثانية” من الإصابة، وعدد المصابين الجدد كل يوم يشبه العدد الذي سجل في شهري آذار ونيسان.

اتخذت معظم دول أوروبا في أثناء “الموجة الأولى” إغلاقاً عاماً، كجزء من سبل التصدي لتفشي الوباء. وشائق أن نتبين أن الدول التي اتبعت الإغلاق الكامل يشاهد فيها هذه الأيام ارتفاع كبير في عدد حالات الإصابة الجديدة كل يوم، بما في ذلك دول كان معدل الوفيات فيها أعلى في الموجة الأولى، مثل فرنسا وبلجيكا وبريطانيا.

تشكل السويد حالة اختبار مشوقة. لم يتبع في هذه الدولة إغلاق عام للتصدي للفيروس. ومع أن الحكومة أوصت السكان بإبداء المسؤولية، والعمل من البيت، والامتناع عن التجمهر والحفاظ على التباعد الاجتماعي، إلا أنها لم تقيد الحركة بشكل رسمي ولم تأمر بإغلاق المحلات ومجالات الترفيه.

في بداية انتشار الوباء، سجل في السويد عدد عال من الوفيات، ولا سيما بسبب كثرة حالات الوفاة في دور العجزة الحكومي. ولكن مع تقدم الوباء، انخفض عدد المصابين والمتوفين في الدولة. أما اليوم فعدد المصابين والمرضى في السويد هو الأدنى بين كل الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية.

تتخذ الدول المختلفة هذه الأيام سياسة مختلفة لمكافحة الفيروس. لم تتخذ أي دولة في العالم، باستثناء إسرائيل، الإغلاق العام الكامل للمرة الثانية. وتتخذ دول مختلفة في الانفجار الحالي للوباء سياسة قيود محلية وموضعية.

في أعقاب اندلاع المرض في دولة فيكتوريا (مع 6.2 مليون من السكان)، فرض أستراليا إغلاقاً محلياً متشدداً جداً (ولكن لا يزال محلياً). أمرت الحكومة في بريطانيا مؤخراً بإغلاق البارات والمطاعم في ساعات المساء. ودعا رئيس الوزراء بوريس جونسون الجمهور إلى الاكتراث، والحرص على احترام التعليمات، وطالب بتشجيع العمل من بعيد.

تتخذ حكومات مختلفة جملة واسعة من الخطوات الوقائية، بما فيها فرض لبس الكمامة، والغرامة الكبيرة في حالة عدم الطاعة، وفرض قيود لزمن طويل (نصف سنة في بريطانيا)، ومنع التجمهرات (في بريطانيا يسمح بالتجمهر حتى ستة أشخاص فقط)، وسلسلة طويلة أخرى من الخطوات التي هدفها إبطاء تفشي الوباء – دون فرض إغلاق كامل. إن الخط العام الذي يوجه الأمور هو العمل الموضعي، والمحلي، ومنع التجمهر، وفرض التعليمات.

في معظم الدول عاد تلاميذ المدارس إلى صفوف التعليم، وأعلن العديد من الزعماء بأنهم لن يغلقوا جهاز التعليم مرة أخرى. وذلك في ضوء دورها المهم في الحفاظ على حياة المجتمع، وكسب القيم، وتقليص الفوارق وعدم المساواة.

ثمة عدد كبير من المتغيرات التي تؤثر على الوفيات بالفيروس ولا ترتبط بخطوات الحكومة، وهذه متغيرات اجتماعية (ديمغرافية، وجينية وجغرافية، مثل العمر المتوسط للسكان، ومزايا الإصابة) مثل معدلات السمنة الزائدة لدى السكان، والناتج المحلي الخام للفرد، والفوارق في الدخل للفرد. والخطوات الوقائية كفيلة بإبطاء الوتيرة، للامتناع عن وضع تنهار فيه أجهزة الصحة.

ينشر كل يوم في الأدبيات المهنية عدد كبير من المقالات، التي توفر بنية تحتية علمية لأصحاب القرار ومقرري السياسة. في أحدث الأبحاث برزت عدة نتائج مثيرة للاهتمام:

معظم الكمامات البيتية كانت ناجعة في منع الرذاذ (فحصت في ظروف السعال، والعطاس والحديث بصوت عال).
إن إجراء فحوصات PCR للمصابين دون أعراض مرتين كل أسبوعين في فترة هبوط الوباء هو مجدٍ (بتعابير الكلفة مقابل المنفعة) ويؤدي إلى حالات إصابة أقل في فترة زمنية محددة. من هنا جاءت الحاجة إلى زيادة عدد الفحوصات دون تحديد.
خطر الوفاة في حالة الإصابة بالإنفلونزا إلى جانب كورونا يزداد بشكل كبير (1.5 ضعف).
خطوات وقائية على المستوى المحلي تؤدي إلى عدد مصابين مشابه، ولكن مع ضرر أقل بالاقتصاد مقارنة بخطوات وقائية على المستوى الوطني.
كل الشهادات المتراكمة تساعد كل يوم في رسم سياسة واتخاذ خطوات وقائية (تشجيع التطعيم للسكان في خطر، وفرض وضع الكمامة من أي نوع، وزيادة تنفيذ فحوصات الاستطلاع).
في عالم العلوم تتجمع شهادات تفيد بأن هناك احتمالاً عالياً في أن تكون انفجارات فيروس كورونا موسمية، مثل فيروس الإنفلونزا وبما يشبه فيروسات كورونا الأخرى. إذا ما تحقق هذا السيناريو بالفعل فسيكون لهذا عدد من المعاني البارزة:

1.فهم طرق انتشار الفيروس حرج كي تتمكن الحكومات من الرد بموجب ذلك فترسم السياسات.

2.سيكون لتغيير المناخ تأثير على الانفجارات المستقبلية للفيروس.

3.موسمية الانفجارات (مزيد من الإصابات في الشتاء وأقل في الصيف) ذات صلة أساساً بعد تطوير اللقاح أو الوصول إلى مناعة القطيع.

يحاول العالم تحليل المعلومات للوصول إلى تقدير زمن انتهاء الوباء. وثمة تعريفان مهمان لـ “نهاية الوباء” لكل واحد منهما محور زمني منفصل:

1.نقطة نهاية وبائية تأتي مع مناعة القطيع. وهذه نقطة ستقع عندما يكون معدل المحصنين عالياً بما يكفي لمنع العدوى الواسعة والمتوسطة. وتأمل دول عديدة في إتاحة تطوير اللقاء للوصول إلى مناعة القطيع. وحين تصل إلى نقطة النهاية هذه، فلن تكون هناك حاجة لتدخلات طوارئ للصحة العامة. هذا الهدف بعيد اليوم مدة سنة.

2.الانتقال إلى “الحياة الطبيعية”، ونقطة النهاية هذه (وهذا الافتراض مبكر جداً) ستتم حين تكون كل عناصر الحياة الاقتصادية والاجتماعية قادرة على أن تتجدد دون خوف من وفيات متواصلة أو آثار صحية بعيدة المدى. وسيتاح الوصول إلى هذه النقطة من خلال أدوات مثل التطعيم ضد الإنفلونزا في الشتاء للسكان ذوي الخطر العالي، وفحوصات سريعة ودقيقة لاكتشاف فيروس كورونا، وعلاجات محسنة وناجعة، ومواصلة تعزيز الصحة العامة. المحور الزمني للوصول إلى هذه الأهداف يتغير وفقاً للمكان. في مناطق مع رد فعل مناسب من الصحة العامة، “الحياة الطبيعية” كفيلة بأن تصل لفترة طويلة قبل انتهاء الوباء.

***

وختاماً: لا تزال المعلومات عن الفيروس، طبيعته وأضراره، قيد الدرس. في تقدير حذر، سيتعين علينا أن نتعايش لأشهر طويلة أخرى وربما سنين مع الفيروس. والطريق إلى الحياة الطبيعية يمر عبر تعزيز المجتمع بالاقتصاد والصحة معاً.

وستساعدنا في ذلك ثلاث قواعد حديدية: الحرص على وضع الكمامة، والحفاظ على التباعد والنظافة الشخصية، ومنع التجمهرات في كل مظاهر نسيج الحياة، وحماية كبار السن. هذه هي حياتنا في السنة القريبة القادمة، ويجب أن نستوعب ذلك. سنة طيبة وخاتمة طيبة للعيد.

معاريف 27/9/2020

بقلم: البروفيسور شوكي شيمر

رئيس المركز الطبي “إسوتا” ومدير عام وزارة الصحة سابقاً

 

Exit mobile version