جدلية حرية التعبير في العالم العربي

تطورت التكنولوجيا في مطلع هذا القرن، وتم وصول الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لكل شخص، فأصبح الكل يمتلك منبراً يعبر فيه عن رأيه، ويكتب ما يجول في خاطره وما يعتقده في كل مجالات الحياة.

الحكومات اللاديمقراطية في العام العربي سارعت إلى استدراك هذا التحول التكنولوجي الكبير، فتم سَنّ كثير من النصوص القانونية التي تجرّم التعرض لها من خلال النشر على مواقع التواصل الاجتماعي سواء كانت مكتوبة أو مرئية، حيث إن هذه المواقع منحت للأفراد الكثير من خدمات النشر للمواد المرئية والمسموعة والمقروءة، كما قامت تلك الحكومات بتعديل قوانين العقوبات القديمة لديها بأن غلظت العقوبات على جرائم الذم والقدح والتحقير المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وشهد سن تلك القوانين تسارعاً، ووضعت على جداول أعمال بعض البرلمانات العربية بشكل طارئ، كل ذلك من أجل تكميم أفواه الناس ومنع حرية التعبير.

وقامت الحكومات اللاديمقراطية باستحداث وحدات فنية لدى الأجهزة الأمنية تحت مسمى مكافحة الجرائم الإلكترونية، وبلا شك أن الفضاء الإلكتروني أصبح بيئة خصبة لممارسة كل أنواع الجرائم، لكن ما يهمنا هنا الحديث عن حرية التعبير وتجريمها وفقاً للنصوص القانونية المستحدثة والمعدلة.

الحكومات اللاديمقراطية اعتبرت أي انتقاد لها أو لأي عمل تقوم به هو من الجرائم التي يجب مطاردتها، وتكميم أفواه الناس، لتبقى لهم السلطة المطلقة في إدارة المشهد دون أن تخدش مسامعهم بكلمة اعتراض أو انتقاد واحدة، ووضعوا واتخذوا كل الإجراءات القانونية لمنع وصول الانتقاد لهم.

المشكلة الأكبر هو أن الفواصل ما بين حرية التعبير والتعدي على حياة الناس وخصوصياتهم ومخالفة روح نصوص القانون العادلة غير موجودة لدى النخب السياسية التي ترزح تحت سطوة الحكومات اللاديمقراطية وتناضل من أجل التخلص منها، ووجدنا كثيراً من تلك النخب تقوم بمطاردة النشطاء؛ لأنهم يتعرضون لها ولأطروحاتهم السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي، هذه النخب مارست ذات أساليب الحكومات اللاديمقراطية، ويستفيدون من القوانين العرفية التي تم استحداثها من قبل الأنظمة.

في العالم الغربي هذه الجدلية لا تكاد تكون موجودة، هناك ما يشبه العرف السياسي، وإن كان غير مكتوب، ولا يوجد شخص سياسي يستطيع اختراقه، هذا العرف يقضي بأن من يتعرض للشأن العام هو شخص يفقد الحصانة والحماية حتى في المسائل الشخصية حتى لو كان القانون يحميه، لكنه لا يمكنه استخدامه سياسياً، بينما يتمتع الشخص العادي بأقصى درجات تلك الحماية القانونية من جميع أوجه الجرائم الإلكترونية ما دام لم يتعرض أو يتصدر الشأن العام وإدارة الدولة وإدارة مال دافعي الضرائب.

ما تعرض له الرئيس الأمريكي الحالي من النشطاء والمعارضة الديمقراطية من هجوم سياسي على ما يقدمه من برامج سياسية ورؤية في إدارة الدولة الأمريكية، وبكل الوسائل من رسوم كاريكاتورية وشعارات ويافطات تملأ الفضاء الإلكتروني والواقع في الشوارع والإعلانات على حافلات النقل العام والمجلات والصحف الورقية لا يمكن تصور حدوثه في العالم العربي، حتى تم رسم صورته على أدوات الحمامات والجوارب.. إلخ، كل ذلك لم نسمع أن الرئيس الأمريكي رفع أو طارد صحفياً أو ناشطاً أمريكياً واحداً قضائياً فيما يتعلق بما يتم نشره ضده، وإن كان يقسو في بعض ردوده على خصومه ويكيل لهم العبارات القاسية أيضاً.

الحكومات العربية اللاديمقراطية حسمت أمرها بمحاولتها تكميم أي رأي ينتقد سلطتها المطلقة واستخدمت كل الوسائل القانونية وغير القانونية، إلا أن الإشكالية في النخب المعارضة لهذه الأنظمة إذ يسير بعضها على ذات النهج الذي تسلكه هذه الحكومات وبمحاولة تكميم أفواه من ينتقدونها بمبررات تعتبر من مخلفات الفكر السياسي القديم من خلال القول: إن هناك فرقاً بين حرية التعبير وقلة الأدب، وفرقاً بين انتقاد عمل الشخص وانتقاد عمله.. إلخ، كل ذلك ليصلوا إلى ذات النتيجة التي تريدها الأنظمة المستبدة؛ وهي تكميم أي صوت يتعرض لهم بالنقد والاعتراض.

للتخلص من هذه الجدلية وحتى لا تقف النخب التي تناضل من أجل التخلص من الاستبداد بذات المربع الذي تقف عليه الحكومات اللاديمقراطية في المنطقة، فلا بد من استخدام ذات المعيار الموضوعي الموجود في الغرب، بحيث يستثنى من الحماية القانونية؛ تشريعياً وعرفياً، أي شخصية عامة من الوظائف العليا من أمناء عامين بالوزارات ووزراء وقادة جيش وأمن عام.. حتى نهاية الهرم القيادي، ورفع تلك الحماية القانونية الموجودة في هذه النصوص عن كل شخصية عامة منتخبة من الاتحادات الطلابية المدرسية والجامعية حتى أعلى المراكز القيادية المنتخبة.

حتى تستطيع المنطقة العبور نحو الخلاص والتحول السياسي الكبير، وتسير على ما سارت عليه الدول الحديثة الغربية في النهوض لا بد من إطلاق حرية التعبير، وفتح الفضاء العام للرأي والرأي والآخر، وتحصين هذه الحرية من أي اعتداء عليها عندما يتعلق الأمر بالشخصيات العامة، وكل ما يتعرض للشأن العام وجعل حرية التعبير من المسائل المقدسة التي لا يجوز المساس بها أو الاعتداء عليها.

Exit mobile version