بشارات النصر والتمكين في كتاب الله المبين (1-2)

أنزل الله تعالى كتابه الكريم (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل: 97]، وهو كتاب (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42]، وقد بث الله تعالى فيه الكثير من البشارات لعباده المؤمنين، ومن ذلك بشائر النصر والتمكين، فالله سبحانه وتعالى وعدهم عند محاربة أعدائهم إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وإن الله تعالى تكفل بنصرة المظلومين والمستضعفين، وإن نصر الله لعباده المؤمنين يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة، ووعدهم بأن نصره لهم قريب، وفيما يأتي استعراض لهذه البشارات الإلهية.

الوعد بإحدى الحسنيين (النصر أو الشهادة)

قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111].

       وهذه من أعظم الآيات في بشارة المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى نصرة للدين، ولأهميتها فقد وردت في القرآن والتوراة والإنجيل، ووصف الله تعالى هذه الصفقة بالفوز العظيم، قال الطبري: “إن الله ابتاعَ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة … وعدهم الجنة جل ثناؤه، وعدًا عليه حقًّا أن يوفِّي لهم به، في كتبه المنـزلة: التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وَفَوا بما عاهدوا الله، فقاتلوا في سبيله ونصرةِ دينه أعداءَه، فقَتَلوا وقُتِلوا … ومن أحسن وفاءً بما ضمن وشرط من الله … فاستبشروا، أيها المؤمنون، الذين صَدَقوا الله فيما عاهدوا ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم به، فإن ذلك هو الفوز العظيم” [1].

       ومخرجات هذه الصفقة الرابحة مع الله تعالى حددها ربنا بكل وضوح، فهي إما النصر والتمكين في الدنيا، أو الشهادة والنعيم المقيم في الآخرة، وهو غاية المنى، قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة: 52] قال ابن كثير: “شهادة أو ظفر بكم” [2]، وفي تفسير الجلالين: “إحدى العاقبتين النصر أو الشهادة، والحسنيين: تثنية حسنى تأنيث أحسن”. وقال الطبري: “هَلْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْخُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَحْسَن مِنْ غَيْرهمَا، إِمَّا ظَفَرًا بِالْعَدُوِّ وَفَتْحًا لَنَا بِغَلَبَتْنَاهُمْ؛ فَفِيهَا الأجْر وَالْغَنِيمَة وَالسَّلامَة، وَإِمَّا قَتْلا مِنْ عَدُوّنَا لَنَا، فَفِيهِ الشَّهَادَة وَالْفَوْز بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاة مِنْ النَّار، وَكِلْتَاهُمَا مِمَّا يُحَبّ وَلا يُكْرَه”[3].

ومثل ذلك قول الله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 74]، إما قتلٌ في سبيل الله تعالى وهو أسمى أماني المؤمنين، أو غلبة وظفر بالأعداء وهو مما يرنو إليه المسلمون، كما وصف ربنا تبارك وتعالى: (وأخرى تحبونها نصر ٌمن الله وفتح قريب) [الصف: 13].

الوعد بنصر المظلومين والمستضعفين

       إن الله تعالى لا يرضى الظلم ولا يحب الظالمين، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ..”[4]، واقتضت حكمة الله تعالى ورحمته وعدله أن ينصر عباده المستضعفين المظلومين إذا أدوا ما عليهم من واجبات، وتمسكوا بمنهج الله تعالى القويم، والتزموا صراطه المستقيم، واجتنبوا الظلم والبغي والعدوان.

 ومن الآيات الدالة على ذلك ما يأتي:

من مجمل هذه الآيات يتبين لنا أن الله تعالى يقرر عدة حقائق كانت غائبة عن الكثرة الظالمة الكافرة، وكانت القلة المؤمنة المستضعفة المظلومة بحاجة إلى بيانها وتثبيتها. وتتجلى من هذه الآيات الحقائق الآتية:

* عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج.

 

[1]  تفسير الطبري (الآية 111 من سورة التوبة).

[2] تفسير ابن كثير (الآية 111 من سورة التوبة).

[3]  انظر: تفسير الجلالين، والطبري (الآية 111 من سورة التوبة).

[4] رواه مسلم (ح2577).

[5]  سيد قطب، في ظلال القرآن، ط6، 5/603.

[6]  رواه البخاري (ح7405)، ومسلم باختلاف يسير (ح2675).

[7]  تفسير الشعراوي (المسموع) الآية 23 من سورة المائدة.

[8] تفسير البغوي (الآية 56 من سورة المائدة).

[9] في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي- بيروت، ط5، 1386هـ/ 1967م، 7/649.

[10] في ظلال القرآن، دار الشروق- القاهرة، ط8، 1399هـ/ 1979م، 5/2676.

Exit mobile version