أنزل الله تعالى كتابه الكريم (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل: 97]، وهو كتاب (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42]، وقد بث الله تعالى فيه الكثير من البشارات لعباده المؤمنين، ومن ذلك بشائر النصر والتمكين، فالله سبحانه وتعالى وعدهم عند محاربة أعدائهم إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وإن الله تعالى تكفل بنصرة المظلومين والمستضعفين، وإن نصر الله لعباده المؤمنين يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة، ووعدهم بأن نصره لهم قريب، وفيما يأتي استعراض لهذه البشارات الإلهية.
الوعد بإحدى الحسنيين (النصر أو الشهادة)
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111].
وهذه من أعظم الآيات في بشارة المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى نصرة للدين، ولأهميتها فقد وردت في القرآن والتوراة والإنجيل، ووصف الله تعالى هذه الصفقة بالفوز العظيم، قال الطبري: “إن الله ابتاعَ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة … وعدهم الجنة جل ثناؤه، وعدًا عليه حقًّا أن يوفِّي لهم به، في كتبه المنـزلة: التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وَفَوا بما عاهدوا الله، فقاتلوا في سبيله ونصرةِ دينه أعداءَه، فقَتَلوا وقُتِلوا … ومن أحسن وفاءً بما ضمن وشرط من الله … فاستبشروا، أيها المؤمنون، الذين صَدَقوا الله فيما عاهدوا ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم به، فإن ذلك هو الفوز العظيم” [1].
ومخرجات هذه الصفقة الرابحة مع الله تعالى حددها ربنا بكل وضوح، فهي إما النصر والتمكين في الدنيا، أو الشهادة والنعيم المقيم في الآخرة، وهو غاية المنى، قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة: 52] قال ابن كثير: “شهادة أو ظفر بكم” [2]، وفي تفسير الجلالين: “إحدى العاقبتين النصر أو الشهادة، والحسنيين: تثنية حسنى تأنيث أحسن”. وقال الطبري: “هَلْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْخُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَحْسَن مِنْ غَيْرهمَا، إِمَّا ظَفَرًا بِالْعَدُوِّ وَفَتْحًا لَنَا بِغَلَبَتْنَاهُمْ؛ فَفِيهَا الأجْر وَالْغَنِيمَة وَالسَّلامَة، وَإِمَّا قَتْلا مِنْ عَدُوّنَا لَنَا، فَفِيهِ الشَّهَادَة وَالْفَوْز بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاة مِنْ النَّار، وَكِلْتَاهُمَا مِمَّا يُحَبّ وَلا يُكْرَه”[3].
ومثل ذلك قول الله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 74]، إما قتلٌ في سبيل الله تعالى وهو أسمى أماني المؤمنين، أو غلبة وظفر بالأعداء وهو مما يرنو إليه المسلمون، كما وصف ربنا تبارك وتعالى: (وأخرى تحبونها نصر ٌمن الله وفتح قريب) [الصف: 13].
الوعد بنصر المظلومين والمستضعفين
إن الله تعالى لا يرضى الظلم ولا يحب الظالمين، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ..”[4]، واقتضت حكمة الله تعالى ورحمته وعدله أن ينصر عباده المستضعفين المظلومين إذا أدوا ما عليهم من واجبات، وتمسكوا بمنهج الله تعالى القويم، والتزموا صراطه المستقيم، واجتنبوا الظلم والبغي والعدوان.
ومن الآيات الدالة على ذلك ما يأتي:
- قال تعالى: (إنّ اللهَ يدافعُ عنِ الذينِ آمنوا إنّ اللهَ لا يحبّ كلّ خوّانٍ كفورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّه عَلَى نَصْرهمْ لَقَدِير * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 38-41].
- قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [الحج: 60].
- قال عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص: 4-6].
- قال سبحانه على لسان سيدنا نوح عليه السلام: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر: 10].
من مجمل هذه الآيات يتبين لنا أن الله تعالى يقرر عدة حقائق كانت غائبة عن الكثرة الظالمة الكافرة، وكانت القلة المؤمنة المستضعفة المظلومة بحاجة إلى بيانها وتثبيتها. وتتجلى من هذه الآيات الحقائق الآتية:
- حقيقة أن الله عز وجل قبل أن يأمر المؤمنين بالدفاع عن أنفسهم ورفع الظلم عنهم تكفل بالدفاع عنهم وحمايتهم (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)، وأن الله عز وجل يكره أعداءهم وسيخذلهم لكفرهم وخيانتهم وظلمهم للمؤمنين (إن الله لا يحب كل خوان كفور)، وأن على المؤمنين أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم (وإن الله على نصرهم لقدير).
- حقيقة أن القوة المؤثرة الوحيدة في هذا الوجود هي قوة الله تعالى، وأن قوة الله تعالى لا تكون إلا مع المؤمنين ولو كانوا مجردين من مظاهر القوة الخارجية في الدنيا، ومن كانت قوة الله معه فلا خوف علي، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة وإن حاز من أسباب القوة الدنيوية ما حاز، إلا أن هذه القوة الإلهية لا تمنح للمؤمنين إلا عندما يقفون بإيمانهم القوي مع أسبابهم وإن قلّت لمواجهة الطغيان الباغي المعتدي، قال تعالى: (قاتلوهم يعذبْهم الله بأيديكم ويخزهم وينصرْكم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) [سورة البقرة: 14]، فالوعد بنصر المؤمنين (وينصركم عليهم) جاء بعد بذلهم السبب (قاتلوهم)، “فلقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم أثناء المعركة، فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة” [5]، وفي النهاية تكون عاقبة هذه المواجهة انتصار الإيمان وخذلان الطغيان، قال الله تعالى: (قاتلوهم يعذبْهم الله بأيديكم ويخْزِهم وينصرْكم عليهم) [التوبة: 14]. وقد أدرك هذه الحقيقة رجلان من بني إسرائيل يخافان الله، فحذرا بني إسرائيل لما نكلوا عن طاعة الله ومتابعة رسول اللّه موسى عليه السلام الذي أمرهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين، ولكنهم أبوا خوفا من شدة بطشهم، قال تعالى: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 23]، قال الشعراوي: “وهما رجلان يخافان النكوص عن أمر الله، بينما بنو إسرائيل – كمجموع – لم يفهموا عن الله حق الفهم؛ لأنهم لو نفذوا أمر الله لهم بالدخول إلى الأرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم الله من ذلك. لكن لم يفهم عن الله فيهم إلا رجلان. فقد قالا: ما دام الله قد كتب لكم الدخول، فهو لا يطلب منا إلا قليلا من الجهاد. فحين يأمر الله الإنسان بعمل من الأعمال، فيكفيه أن يتوجه إلى العمل اتجاها والمعونة من الله. وسبحانه يقول للعبد: “أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة” [6]. فإذا كان الشأن في المشي أن يتعب الذاهب والسائر، فالله لا يريد أن يرهق بالمشي من يقصده ويطلبه؛ لذلك يُهرول فضله ورحمته -سبحانه- إلى العبد. فالرغبة الأولى أن يكون العمل لك أنت أيها العبد. ومن عظائم فضل الله أنه فعل ونسب إليك، وسبحانه يسعد بالعبد الساعي إليه [7]. وقال عز وجل: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56]، فمن فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونصره، ووالى المسلمين ونصرهم، فهو من حزب الله، قال البغوي: “(فإن حزب الله) يعني: أنصار دين الله” [8]، وهذا شبيه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: ]، وكقوله سبحانه: (ولينصرنَّ اللهُ من ينصرُه) [الحج: 40] فإن قام المؤمنون بفعل الشرط وهو الإيمان ونصرة دين الله، تحقق جواب الشرط يقينا وهو الانتصار والتثبيت على منهج الله، فإن الجزاء من جنس العمل.
- حقيقة أن الطغيان إن تجاوز حده، وفقد المستضعفون الحيلة، عندها تتدخل القدرة الإلهية لتثبيت هذه القاعدة الربانية وتقرير أن قوة الله لا تكون إلا مع من حمل قيمة الإيمان، وهذا سيدنا نوح عليه السلام هدده قومه بالقتل: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) [الشعراء: 116] وقد لبث فيهم زهاء ألف عام يدعوهم إلى الله، وبعد أن بذل وسعه وانتهى جهده وحوله، نادي ربه (أني مغلوب فانتصر) فالأمر أمرك، قال سيد قطب: “وما تكاد هذه الكلمة تقال، وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة فتدور دورتها المدوية المجلجلة (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) [القمر: 11-12]” [9]، وقال في تفسير سورة القصص: “والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر، بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم، فتنقذهم، وتستنفد عناصر الخير فيهم، وتربيهم، وتجعلهم أئمة، وتجعلهم الوارثين”[10]. وصدق الله العظيم: (وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون) [الشعراء: 227].
* عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج.
[1] تفسير الطبري (الآية 111 من سورة التوبة).
[2] تفسير ابن كثير (الآية 111 من سورة التوبة).
[3] انظر: تفسير الجلالين، والطبري (الآية 111 من سورة التوبة).
[4] رواه مسلم (ح2577).
[5] سيد قطب، في ظلال القرآن، ط6، 5/603.
[6] رواه البخاري (ح7405)، ومسلم باختلاف يسير (ح2675).
[7] تفسير الشعراوي (المسموع) الآية 23 من سورة المائدة.
[8] تفسير البغوي (الآية 56 من سورة المائدة).
[9] في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي- بيروت، ط5، 1386هـ/ 1967م، 7/649.
[10] في ظلال القرآن، دار الشروق- القاهرة، ط8، 1399هـ/ 1979م، 5/2676.