هل تكون قرارات الضم الصهيونية وقوداً لانتفاضة جديدة؟

يتحدث كثيرون عن انتفاضة فلسطينية جديدة تلوح في الأفق؛ بسبب قرارات الاحتلال الأخيرة التي تعتبر إحدى مراحل تنفيذ “صفقة القرن” التي أعلنها الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب”، مطلع العام الجاري.

وكان رئيس وزراء الكيان المحتل “بنيامين نتنياهو” قد أعلن عن اعتزام حكومته ضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن عقب نجاحه، مطلع مايو الماضي، في تشكيل حكومة وحدة وطنية في دولة الكيان، وقد قوبل قرار “نتنياهو” بعاصفة من الشجب والإدانة الاستنكار من قبل الأنظمة العربية، التي اعتاد الكيان المحتل عليها مع بعض التحركات الدبلوماسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ مما يثير مجموعة من التساؤلات، منها:

كيف يرى الداخل “الإسرائيلي” قرار الضم على مستوى القيادات الأمنية والنخب المؤثرة؟ وهل يمكن لـ”نتنياهو” أن يمرر هذا القرار فعلاً؟ وما الذي جعله يتراجع عن الموعد الذي حدده (أول يوليو الماضي)؟

وفي السياق الأهم: هل يمكن للفلسطينيين أن يمثلوا حجر عثرة أمام هذا القرار؟ بمعنى؛ هل يؤدي هذا القرار إلى انتفاضة جديدة تجتمع فيها الكلمة الفلسطينية وتجبر الكيان المحتل على التراجع؟

وإذا كانت الإجابة بالنفي؛ فما تلك الموانع التي تقف أمام فرصة الانتفاضة الجديدة؟

أسئلة كثيرة تحاول “المجتمع” الإجابة عنها في السطور التالية:

المفارقة التي رصدها كثيرون تؤكد أن التفاعل مع هذه الأحداث في الداخل “الإسرائيلي” صار أكثر من نظيره الفلسطيني، بحسبان حالة الرعب التي تنتاب كثيرين داخل الكيان هي محرك هذا التفاعل. 

وبالنظر إلى سيل استطلاعات الرأي الذي قامت به مراكز أبحاث داخل الكيان المحتل، يتأكد أن “الإسرائيليين” أنفسهم يهتمون كثيراً برد فعل الجانب الفلسطيني، ربما أكثر من آحاد الفلسطينيين؛ حيث أظهر استطلاع للرأي نشرته “يديعوت أحرونوت” أن أكثر من نصف من شملهم الاستطلاع يرون أن ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة سيشعل انتفاضة فلسطينية جديدة، وأن النصف الآخر يرون ضرورة تنفيذها.

وأظهر استطلاع آخر نشره “معهد الديمقراطية الإسرائيلي” أن 50% من “الإسرائيليين” يؤيدون الضم، ويعارضه نحو 31%، في حين لم يحدد 19% موقفهم، وما يلفت في نتائج استطلاع الرأي أن أغلبية المستطلعين (حوالي 58%) يعتقدون أن خطة الضم ستؤدي إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة.

وعلى مستوى النخب، وكما يؤكد الكاتب البريطاني “دانيال هيلتون” في مقال له على موقع “ميدل إيست آي”، أن هناك تبايناً كبيراً في المواقف بشأن الموضوع حتى بين “الإسرائيليين” الذين يؤيدون ضم الأراضي الفلسطينية.

ويتابع “هيلتون”: هناك قادة المستوطنات “الإسرائيلية” واليهود القوميون المتطرفون الذين يرون في فكرة الدولة الفلسطينية لعنة، كما يرون أن كل الأراضي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن هي أرض “إسرائيل الكبرى”، ويرفضون الضم التدريجي أو المحدود مع تنفيذ خطة “ترمب”.

وفي المقابل، هناك بعض التنظيمات اليهودية الرافضة لفكرة الضم من الأساس، وهناك أيضاً قادة الأجهزة الأمنية الذين يرون في قرار الضم عبئاً أمنياً شديداً لا تحتمله “إسرائيل” في هذا التوقيت.

ومعلوم أن الفلسطينيين قاموا بانتفاضتين؛ الأولى بين عامي 1987 و1993م، وسميت “انتفاضة الحجارة”، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية المعروفة بـ”انتفاضة الأقصى” بين أواخر سبتمبر 2000 وحتى العام 2005م، وقامت دولة الاحتلال بقمعها بشدة وبنت خلالها الجدار الأمني الفاصل؛ متعللة بأنه لمنع الهجمات والعمليات التي تنفذ ضدها.

وإذا كان الداخل “الإسرائيلي” على مستوى القاعدة يهتم لهذه الدرجة، فإن الحكومة الصهيونية نفسها تحاول اتخاذ كثير من التدابير تحسباً لرد فعل تراه وشيكاً؛ فقد أمر وزير دفاع الاحتلال “بيني غانتس” الجيش بتسريع استعداداته للإجراءات الجارية على الساحة الفلسطينية، بشأن عملية الضم قبل اتخاذ خطوات سياسية.

تأجيل أم تراجع؟

تأجيل أم تراجع؟ سؤال تمثل الإجابة عنه محاولة لفهم الأحداث وسياقاتها، حيث تتداخل فيها أوضاع الداخل “الإسرائيلي” مع استحقاقات الانتخابات الأمريكية، مع تقديرات القيادات “الإسرائيلية” للأوضاع الإقليمية والدولية.

ومعلوم أن “نتنياهو” كان قد أعلن عن موعد الأول من يوليو 2020م لتنفيذ مخطط الضم، لكنه ما لبث أن تراجع قبيل الموعد المحدد، وأرجأ تنفيذ الخطة إلى أجل لم يسمه.

تقارير كثيرة وتحليلات شتى حاولت الإحاطة بأسباب التأجيل، لكن الجميع اتفق على أن حسابات “نتنياهو” لتأجيل تنفيذ قراره بالضم ليس من بينها أبداً الموقف العربي ولا تبعاته، على الرغم من تصريحات شديدة أدلى بها العاهل المغربي الملك عبدالله. 

وعلى حد قول صحيفة “دوار” التركية، في تقرير لها، فإن تأجيل قرار الضم ليس له علاقة لا بموقف الجامعة العربية الضعيف، ولا بسبب رسالة 1080 برلمانياً أوروبياً، ولا لأن العالم الإسلامي لديه قوة تنفيذية منعت ذلك، ولا لأن 14 دولة من أصل 15 في مجلس الأمن اعترضت على ذلك؟ متسائلة: أي قرار من قرارات الأمم المتحدة استمعت إليه “إسرائيل” لكي تستجيب لأي اعتراض؟!

وفي اعتقادنا أن حالة الاستخفاف بالمجتمع الدولي وبالعالم العربي الذي تتندر به الصحيفة التركية -وهي محقة في ذلك بالطبع- نابعة من ثقة دولة الاحتلال الكبيرة في الحليف الأمريكي الأقوى والقادر على تمرير أي قرار، والضغط على الأنظمة المعنية لقبوله، أو على الأقل غض الطرف عنه، خاصة في ظل ولاية “دونالد ترمب” الأكثر صداقة لـ”إسرائيل”، بحسب تعبير “نتنياهو”.

والسؤال هنا: لماذا أجل “نتنياهو” ما دام “ترمب” يبارك القرار؟ الإجابة قالها “أنشيل فايفر”، الكاتب “الإسرائيلي”، في مقال نشرته صحيفة “هاآرتس” العبرية، ملمحاً إلى أن “نتنياهو” ينظر إلى عواقب ما بعد “ترمب”.

يقول “فايفر”: السبب الحقيقي لتأجيل “نتنياهو” تنفيذ خطته يعود إلى موقف المرشح للرئاسة الأمريكية “جو بايدن”، الذي يعد الشخص الأكثر تأثيراً على “نتنياهو” في كبح الضم، مستنداً إلى استطلاعات الرأي التي ترجح إمكانية وصوله البيت الأبيض نهاية العام الجاري.

وأكد أن “نتنياهو” يثق بشكل كبير في استطلاعات الرأي الأمريكية، رغم أنهم ضللوا مرة واحدة على الأقل في الماضي، ويعتقد أن فرص “ترمب” للفوز في نوفمبر المقبل تتلاشى.

ولفت “فايفر” إلى أن “بايدن” يعارض بشكل قاطع مسألة الضم، لذلك قرر “نتنياهو” إعطاء نفسه الأمل في الحصول على فرصة لمناقشة قضيته مع الرئيس الجديد، متوقعاً أنه إذا انقلبت فجوة الاقتراع بين “بايدن”، و”ترمب” لصالح الأخير، فإن احتمال الضم حينها يزداد.

هل ينتفض الفلسطينيون؟

هل ينتفض الفلسطينيون؟ هذا هو السؤال الأهم بحسبان الحراك الفلسطيني هاجساً شديداً لدى حكومة الاحتلال، من حيث الأمن هو المفتاح الأهم لصوت الناخب “الإسرائيلي” من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإن رد الفعل “الإسرائيلي” دائماً يجلب موقفاً دولياً يحرج الإدارة الأمريكية الحليف الأهم.

لكننا رغم ذلك الحذر “الإسرائيلي” الشديد من رد الفعل الفلسطيني، يمكننا أن نلمس اتجاهين متباينين لدى المحللين للوضع الفلسطيني ولإمكانية انتفاضته من جديد ضد مثل هذه القرارات:

الأول: يرى أن عوامل التفجير لانتفاضة قريبة قائمة وقوية ومتفاعلة ومتراكمة، ليس فقط بسبب قرار الضم الأخير، لكن التراكم منذ أن آلت عملية المفاوضات العقيمة إلى ما آلت إليه من دخول الوضع الفلسطيني في الأزمة الشاملة، وفقدان القيادة الفلسطينية القدرة على ممارسة سياسة الإجبار المتبادل، ونجاح الحكومة الصهيونية في العودة بالأوضاع إلى المربع الأول، وبعد أن انتهت عملياً اتفاقية “أوسلو” دون أن تنفذ سلطات الاحتلال الاستحقاقات المترتبة عليها، وبعد أن دخل المشهد السياسي طريقاً مغلقاً تماماً، ليأتي قرار “نتنياهو” بالضم وكأنه القشة التي ستقصم ظهر البعير!

الثاني: يرى أن الوضع مختلف عن السابق لأسباب كثيرة، أهمها:

1- تراكم الأزمات الداخلية الفلسطينية.

2- عدم وجود تنسيق كامل بين تنظيمات المقاومة، بل ووجود بعض نقاط الخلاف.

3- حالة الانقسام التي زادت حدتها كثيراً خلال السنوات الخمس الماضية بين الفصيلين الأكثر شعبية، وهما “فتح” و”حماس”.

4- تغير حالة المواطن الفلسطيني الذي أنهكته أعباء الحياة وطول الزمن حتى وكأنه سئم الصراعات التي لا يرى لها نتائج ملموسة.

5- وجود تجارب لحركات شاملة لم تتم وكانت خسائرها فادحة كمسيرات العودة وغيرها.

كل تلك الأسباب بحسب هذا الاتجاه تجعل من انتفاضة بالمعنى المعروف تاريخياً غير واردة.

لكن في الوقت نفسه، يؤكد أصحاب هذا الاتجاه أن عدم توافر الفرصة لانتفاضة شاملة بالمعنى المعروف ليس معناه غياب رد الفعل، بل ربما سيكون رد الفعل أكثر إيجاعاً وأقل في الكلفة بشكل أو بآخر، حيث ستحاول تنظيمات المقاومة استغلال الحدث لإحداث توازن الرعب الذي يتحدث عنه قادتها كثيراً؛ مما سيمثل هاجساً لدولة الاحتلال.

صحيح أن رد الفعل من جانب دولة الاحتلال سيكون قوياً وربما سيسقط خلاله كثيرون، لكن الوضع على أي حال سيكون حرباً مفتوحة وفيها ألم متبادل، وهو ما يرسخ في أذهان قيادات دولة الاحتلال وأفرادها أنها حرب بين دولتين لا بين أفراد وجيش نظامي، وهي معادلة لها حسابات أخرى في الرد والرد المضاد.

Exit mobile version