مستوى جديد من الاستقطاب في مصر

منذ أسابيع، دارت معركة طاحنة في الفضاء الافتراضي المصري، استمرّت بضعة أيّام متتالية، شهدت تراشقاً وجدلاً واسع النطاق على خلفية انتحار الناشطة المصرية المهاجرة إلى كندا سارة حجازي، بعدما تركت رسالة حملت عتاباً للإنسانية، أعلنت فيها عن تسامحها مع الجميع وفشلها في تجنّب مصيرها، وبدا واضحاً أن الرسالة امتداد لحالة من اضطراب نفسي وصراع فكري عنيف عاشته هذه الناشطة، وللظروف التي مرّت بها خاصة فقدها لأمّها وعدم قدرتها على وداعها.

من المؤكّد أن أيّ حادثة انتحار تمثّل مأساة إنسانية مؤلمة، تزداد سوداويتها إذا كان بطلها في ريعان الشباب، ممّا يستلزم التوقّف أمامها ومحاولة الوصول إلى أسبابها ودوافعها، للحؤول دون تكرارها، بيْد أن حضور نزعات المكايدة والمناكفة السياسية عند البعض، والاستثمار السياسي لدى البعض الآخر، خرج بالحادث عن حدّه الطبيعي، نظراً للخلفية الأيديولوجية للناشطة والتحوّلات التي مرّت بها، وخياراتها الشخصية والسلوكية، وتعرّضها لقدر من البطش، ممّا أدّى إلى محاولة كلّ طرف تكييف أسباب الحادث لخدمة أهدافه، وتصفية حساباته مع الطرف الآخر، في مشهد عجيب فريد مثّل حلقة جديدة من مسلسل الاستقطاب الإسلامي – العلماني الذي اشتعل خلال السنوات الماضية وازدادت حدّته مؤخّراً، كانت المحصّلة تحوّل المشهد من مأساة إنسانية إلى عراك سياسي هادر صاخب، انتهى بوعيد مُتبادَل بين “جنرالات” الفضاء السيبيري من الطرفيْن بأن هذه الجولة سيكون لها ما بعدها.. وبعدما وضعت المعركة أوزارها استحقّ الأمر وقفة للتأمّل.

كانت الخيارات السلوكية للناشطة المحور الأساسي للعراك، عبر التركيز الشديد عليها من الطرفيْن، ممّا ترتّب عليه نقل الأمر من الشقّ الإنساني إلى الشق الأيديولوجي، فمن البديهي أن التعاطف الإنساني مع أيّ إنسان تعرّض لظلم أمر أخلاقي محمود ومفهوم، ولا يعني على الإطلاق التوافق معه عقائدياً، أو فكرياً، أو التضامن مع خياراته الشخصية، أيّاً كانت تلك الخيارات، لكن من غير المفهوم على الإطلاق أن يقوم البعض بتسليط الضوء بشكل متعمّد على الخيار السلوكي لشخص بعينه، في مكايدة ومعاندة عجيبة، من أجل الترويج له، واغتنام حالة التعاطف لتسويغ مسلك أخلاقي مرفوض دينياً ومرذول مجتمعياً.

بدوره لم يفوّت الطرف الثاني الفرصة، فانهال بسيْل وافر من التشفّي والشماتة والطعن، وصل إلى القول بعدم جواز الترحّم عليها، وهو ما يخرج عن أبسط الحدود الأخلاقية لاحترام الموت، والاستباحة لضحية من الأموات، بهدف جعلها أمثولة وعبرة لمن يسلك مسلكها أو يتبنّى فكرها، أمّا الأدهى فهو التحدّث بلغة اليقين وما بعد اليقين، عن مصائر الآخرين في الآخرة، وكأنّ بعضهم يتلقّى وحياً من السماء، أو أنه قد حاز مفاتيح الجنّة ومفاتيح النار، ليُدخل أولياءه الأولى، ويُلقي بأعدائه في الثانية، في حين أنه لا يعرف كيفية خاتمته، فضلاً عن مصيره، في مشهد مؤسف وبغيض ومنفّر إلى أبعد مدى، وهذه مساحة جديدة ولغة غير مسبوقة في المناكفات الاستقطابية.

الملمح الأهمّ كان في التغيير الضمني الذي طرأ على مفهوم النضال الثوري، الذي تجاوز المفهوم التقليدي بمواجهة قوى الفساد والاستبداد، وامتدّ إلى مساحاتٍ جديدة، عبر محاولة كسر التابوهات الدينية والاجتماعية “القديمة” المغلقة، ومحاولة خلخلة الثوابت القيمية والأخلاقية للمجتمع، عبر تسويغ الانحرافات الفكرية والسلوكية والأخلاقية، ومحاولة تطبيع العلاقة بين النماذج الشاذّة (على اختلاف أنواع ودرجات الشذوذ الديني، أو الفكري، أو الجنسي أو الأخلاقي) التي تتبنّى خيارات تتصادم مع الثوابت المستقرّة، وبين المجتمع الذي يقف أغلبه موقف المُستنكر الرافض لها.

بموجب هذا صار النضال الثوري الفضيلة العظمى، بل ذروة سنام الفضائل، التي تمحو ما سواها من أخطاء وسقطات، وجرى تصوير الثوري المصاب بأي قدر من الشذوذ أو الخروج عن المألوف، على أنه “بطل” ومثال يُحتذى من أجل تشجيع آخرين على الدخول في مواجهة انتحارية مع المجتمع، وصارت “الموضة” الثورية الجديدة عند التقدّميين/ التنويريين إيّاهم، هي اهتبال أي فرصة من أجل الإلحاح الشديد على قضية الدفاع عن حقوق الشواذّ والمنحرفين سلوكياً وأخلاقياً، ووجوب تمتّعهم بالظهور العلني في المجال العام، وقبول المجتمع لهم باعتبارهم مجرّد “مختلفين” عن الغالبية، ووجوب دعم هذا “الحقّ” باعتباره من مقوّمات “الثورية” وإن لم تفعل.. فأنت رجعي وجاهل ومتخلّف وربما “تكفيري” أيضاً!

المفارقة المأساوية هنا أن ذلك الفريق بحماقة منقطعة النظير يحفر قبره بيده، وبغباء نادر المثال يعطي خصمه سلاحاً ماضياً لذبحه وتصفيته معنوياً بأسرع طريقة ممكنة، فمن غير المعقول على الإطلاق وفي ظلّ سلسلة طويلة من المشكلات والأزمات الكبيرة والمعقّدة التي نعانيها، وفي ظلّ مجال عام مُغلَق، ومجال سياسي مُؤمّم منذ سنوات، أن يخرج علينا بعضهم بين حين وآخر مطالباً بإلحاحٍ عجيبٍ بضرورة حلّ مشكلة الشواذّ (المصطلح الصحيح هو الشذوذ الجنسي وليس المثلية) وضرورة النظر إليهم باعتبارهم أقليّة تبحث عن حقوقها المهضومة، شأنهم شأن الأقليات الدينية والعرقية الأخرى، في خطوات تدلّ على محاولة بعضهم استنساخ مشكلات موجودة في مجتمعات أخرى، وتتصادم بشكل صريح مع أصول منظومة القيم الأخلاقية لمجتمعاتنا، وهذه ليست المرّة الأولى التي ترفع “شِلل” التقدّميين عقيرتها بتلك المعزوفة النشازية وإن كان الأمر في هذه المرّة قد اكتسى بعصبيةٍ شديدة، ويبدو أن هذه الأصوات تتناغم مع مطالب لوبي “إباحي” دولي، يسعى لفرض عولمة الشذوذ على المجتمعات غير الغربية، تقوم على النظر إلى الشذوذ الجنسي كسمةٍ طبيعية في الإنسان، وليس انحرافاً جنسياً مُكتسباً وفقاً للراحل حسام تمّام.

يبدو جليّاً أن الإحباطات المتراكمة، والخيبات المتتالية (الشخصية والعامة على السواء) وانسداد أفق التغيير المصاحب لحالة من السيولة الفكرية والمفاهيمية، قد استدعى هذا النوع من الجدليات في معركة صفرية يسعى فيها كلّ طرف إلى إخضاع الطرف الآخر لإرادته بشكل كلّي من جهة، في محاولة لفرض سيطرته على المجال العام، وهيمنته الكاملة على أدوات صناعة الرأي العام وصياغة الوعي الجمعي للجماهير من جهة أخرى، ورغم الضجيج المزعج لتلك المعركة ومثيلاتها لكنها تظلّ في النهاية معارك كارتونية، تدلّ على بؤس ونَزق وإفلاس أصحابها أكثر من أي شيء آخر، ويبدو أنها لن تكون الجولة الأخيرة فمن الواضح أننا سنشهد جولات أخرى في المستقبل، ولا عجب.. فالحماقة أعيت من يداويها!

Exit mobile version