الغنوشي: التوافق الذي صنعناه حيّ والخيار الأفضل لتونس وعنوان نجاح ثورتها

نشر رئيس حركة النهضة والبرلمان التونسي راشد الغنوشي مقالاً في مجلة “ليدرز” بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي، الذي توفي في 25 يوليو 2019م.

وقد استحضر الغنوشي، في مقاله، المحطات التاريخية البارزة بعلاقته بالباجي قايد السبسي، وهي علاقة اختلط فيها الشخصي بالسياسي في خلطة كيمياوية جمعت رجلين قادمين من عالمين مختلفين بل متنافرين، ليصنعا معاً عبر ما يعرف بـ”لقاء الشيخين”، ملحمة التوافق الوطني التي كانت لحظة فاصلة في تاريخ الثورة التونسية، بل الربيع العربي، كما جاء في مقاله.

البداية.. منتدى دافوس 

وكتب الغنوشي: سي الباجي.. الصديق والرفيق والديمقراطي المؤمن بالثورة، لا أعتقد أنّ لحظة الكتابة عن صديقي الراحل سي الباجي قائد السبسي، سنة بعد وفاته، لحظة يسيرة بعد سنوات من تلازم المسارات حتى في المرحلة التي غلب فيها الظن بأنّنا أخذنا طريق القطيعة أو الصدام.

وتابع: من الصعب أن تختزل الكلمات علاقة اختلط فيها الشخصي بالسياسي في خلطة كيمياوية جمعت رجلين قادمين من عالمين مختلفين بل متنافرين، ليصنعا معاً عبر ما يعرف “بلقاء الشيخين”، ملحمة التوافق الوطني التي كانت لحظة فاصلة في تاريخ الثورة التونسية، بل الربيع العربي.

وتحدث عن لقاء دافوس قائلاً: حين جلسنا معاً في منتدى دافوس كان العالم يشاهد وحدة تونس في تنوعها وفي توازنها بين من يمثّل ثقافة الاحتجاج المؤمنة بالدولة وثقافة الدولة المؤمنة بالديمقراطية، الغنوشي كان يرفض الفوضى والاستبداد والدكتاتورية والحقد والانتقام والإقصاء والباجي كان يرفض الفوضى والاستبداد والدكتاتورية والإقصاء، الغنوشي جاءت به الثورة من منفى الخارج، بعد منفى دام 20 سنة والباجي أعادته الثورة من منفى الداخل الذي قضى فيه عشرين سنة، كلاهما التقط اللحظة بأن تونس يجب ألا تبقى رهينة الماضي وأن الثورة أمانة ومسؤولية.

لقاء باريس

وقال عن لقاء باريس: “لم يكن لقاء الصدفة أو الصفقة بل كان محطة في مسيرة التقت فيها الهمم على تأكيد الاستثناء التونسي”.

وأردف: بعد لقاء باريس الذي أذبنا فيه الجليد واتفقنا على المبادئ العامة؛ أي ضرورة الحوار للخروج من الأزمة وتجنب الإقصاء، زارني سي الباجي في منزلي في النحلي في إشارة واضحة بأنّ الأيادي ممدودة وأنّ طورا جديدا بدأ في علاقتنا التي شهدت 3 أطوار:

مراحل العلاقة

وتحدث الغنوشي عن السنة الأولى للثورة ومراحل العلاقة مع الباجي، الأوّل خلال رئاسته للحكومة سنة 2011 وكان طور الاحترام المتبادل والحوار وجمعتني به لقاءات عديدة في مكتبه بالقصبة، وأذكر هنا أنّي زرته في منزله بسكرة يوم 22 أكتوبر عشية الانتخابات التشريعية وأكّد لي أنّ الدولة ستحترم إرادة الشعب.

والطور الثاني الذي لم يطل والحمد لله كما كتب الغنوشي، هو طور “الجفوة”، النهضة اختارت الترويكا وهو اختار المعارضة، ونطرح اليوم سؤالاً:

وتساءل: هل كانت أزمة 2013 لتكون لو اخترنا مشهداً سياسياً أساسه تحالف إستراتيجي بين قوى الثورة وقوى النظام القديم بقيادة سي الباجي؟ الصفحة طويت بسرعة في أوت 2013، والدليل حصل على أنّ استقرار تونس سياسياً يحتاج مصالحة شاملة أساسها المصالحة بين الإسلاميين والدساترة.

وأشار إلى أنه لم يكن من اليسير الإقناع بهذا الخيار في النهضة والنداء بعد انتخابات 2014، ولئن وجدنا الحلّ في البرلمان بتصويت النهضة لمرشح النداء في الرئاسة السيد محمد الناصر وتصويت النداء للأستاذ عبدالفتاح مورو نائباً له، فقد كان تشكيل الحكومة محنة، وامتحاناً في ظلّ إصرار بعض القوى في النداء على إقصاء النهضة حتى لا يخون النداء ناخبيه.

اللقاء الأخير

وتطرق الغنوشي في مقاله إلى اللقاء الأخير بينه وبين الباجي، قائلا: آخر لقاء بيني وبيني سي الباجي في منزله بسكرة يوماً قبل الإعلان عن حكومة الصيد الأولى كان ثمة صراع بين خياري التوافق والإقصاء وكان سي الباجي مع التوافق بالطبع، وكنت مقتنعاً بأنّ المطلوب ليس عدد الوزارات التي ستحصل عليها النهضة بل هزم مشروع الإقصاء والاستئصال.

وقال: “قبلنا في الحقيقة بوزير واحد في الحكومة؛ لأنّنا كنا ندرك أنّ المعركة كانت رمزية، وأن النهضة التي قد تكون فوتت فرصة توافق نوعي سنة 2011، مدعوة للتفكير بعقل إبداعي يتجاوز الحسابات الفئوية الضيقة ويلتقط لحظة وطنية طوت صفحة الانقسام الحاد الذي خلفته الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

موقف لا ينسى

وذكر الغنوشي ما وصفها بالطرفة: “ففي سنة 2016 كما كتب الغنوشي، كان سي الباجي حريصاً على حضوري مؤتمر النداء بسوسة، وأذكر طرفة وهو أنّ سيارتي تعطلت في زحمة المرور فأعطى تعليماته بتخفيض سرعة موكبه الرئاسي حتى نصل في نفس الوقت، مشهد الغنوشي في قاعة كانت منذ أشهر تهتف ضده، ومشهد سي الباجي رحمه الله في قاعة رادس يخاطب شباب النهضة الذي طالما هتف ضد النداء، شكّل لوحة جميلة تونسية خالصة، عنوانها انتصار تونس على ثقافة الحقد والكراهية والإقصاء”.

وتساءل: هل كان بالإمكان أن نمضي خطوات أكثر على درب المصالحة وطي صفحة الماضي وترجمة المنجز التوافقي تنموياً؟

وأجاب: نعم، ولكن التقليل من شأن المنجز التوافقي أو محاولة تشويهه والانقلاب عليه مرفوض؛ لأنّ إنقاذ التجربة الديمقراطية لم يكن شيئاً بسيطاً، والأيام تؤكد لكل ذي رأي حصيف أن تراجع ثقافة التوافق في وضع سياسي هشّ يقابله تنامي مخاطر الفوضى السياسية، والاحتقان.

التوافق هو الخيار الأفضل

من يقرأ هذه الكلمات سيدرك أنّ التوافق الذي صنعناه حيّ، وأنه الخيار الأفضل لتونس وعنوان نجاح ثورتها.. توافق انبنى على علاقة وجدانية منزّهة عن المصالح الضيقة و”تخديم المخ” (تشغيل العقل).

كانت لكل منا رؤيته في كثير من الملفات، ولكن التقينا تحت خيمة المصلحة الوطنية والمحبة الشخصية، فكان خلافنا رحمة ولقاؤنا فرصة للتقدم بتونس نحو المزيد من الأمن والاستقرار.

واستشهد بحادثة وقعت في منزل الباجي: “أذكر ونحن في بيته في سكرة أنّ أحد الحاضرين في اللقاء المضيق قال “سي الباجي أنت والشيخ إخوة”، فأجابه: “بل نحن أصدقاء لأن الأخ لا يختار شقيقه وقد لا يتفق معه ولكن الصديق يختار صديقه”، كان خياراً صائباً مني ومنه، استفادت منه تونس والحمد لله، في الماضي ولكن في أنّه سيبقى بمشيئة الله أحد مفاتيح الحاضر والمستقبل.

وترحم على الباجي قائلاً: رحمك الله أخي وصديقي سي الباجي العزيز.

Exit mobile version