مسجد آيا صوفيا

إن قضية “آيا صوفيا” بالأساس قضية حضارية، ثقافية، سيادية، ولها جذور قومية، ووطنية، ودينية، فالقوميون الأتراك تحمسوا للقرار أكثر من الإسلاميين، لا بل إن خصوم أردوغان، مثل عبدالله غول، وباباجان، وأحمد داود أوغلو، أصدروا بيانات قوية للإشادة بالخطوة، والأعجب أن منافس أردوغان على رئاسة الجمهورية محرم أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، أيد الخطوة بقوة، فالقضية ليست مسجداً، وكنيسة، ومتحفاً، القضية أن تركيا تسيَّدت العالم لقرون، ثم أهينت في عقر دارها مراراً، وحاولت 22 دولة أوروبية مع أستراليا، ونيوزيلندا، اجتياح إسطنبول لأجل “آيا صوفيا”، في معركة استمرت لتسعة شهور على بوابات مضيق الدردنيل عام 1915م، حيث انتصر العثمانيون في “جناق قلعة” بعد ما فقدوا ربع مليون شهيد منهم آلاف من الأردن وفلسطين، وما زالت أسماؤهم على القبور مرسومة، وموسومة بحسب بلداتهم.

هناك انقلاب عسكري مدعوم أطاح بالسلطنة العثمانية التي توافق العالم الآخر على تفكيكها بالتدريج، بدءاً بالجيش عام 1826م، مروراً بالعلماء عام 1867م، وصولاً لخلع اليهود للسلطان عبدالحميد عام 1909م، وانتهاء بإعلان الانقلاب على السلطنة، وعلى الإسلام، والقرآن، والأذان، واللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، وذبح 26 ألف عالم، وفقيه، ومفتٍ، وإمام، وقلعت جذور الإسلام توطئة لعلمنة تركيا بشكل متوحش، ومن ذلك تحويل مسجد “آيا صوفيا” إلى متحف عام 1934م، وكان المخطط ضد الإسلام قد بدأ في مؤتمر سالزبورغ، برئاسة الحاخام ديفيد هيرش عام 1731م، ومنذئذ تم تدشين مسلسل توهين الأمة، بدءاً بالرأس العثماني، ليتفردوا ببيت المقدس، فخلال قرنين توقف المد العثماني، ودمرت مساجد 22 دولة في البلقان، والأدريارتيك، والقفقاس، والقرم، ولقد عانى البوسنيون مثلاً من 11 مذبحة مروعة على مدى قرن ونصف قرن، وما ذكرى سريبرنيتسا التي مرت ذكراها منذ أيام عنا ببعيد، حيث أسلم الجيش الهولندي رقاب 8 آلاف من الشباب للذبح في عمق أوروبا، أما بلغاريا، ورومانيا واليونان، فحدِّث ولا حرج، حيث لم يتبق مسلم واحد في جزر إيجة، والمتوسط، وأحرقت مساجدهم، ولا يسمح في برلمان أثينا ببناء مسجد واحد لمليون مسلم يوناني، 271 مسجداً في عاصمة صربيا التي كانت عش السادة الأحناف كلها دمرت إلا واحداً، وأحرقت مكتبة بلجراد التي حوت كنوز الثقافة العثمانية 86 عاماً، والترك يتظاهرون، ويعتصمون لاسترجاع مسجدهم الجامع، بل الجامعة التي كانت تحوي مئات حلقات طلبة العلم، من أرجاء الأمة خاصة بلاد الثغور، وكان جوهر برنامج بروفيسور نجم الدين أربكان الانتخابي استعادة المسجد المغدور.

أنا لست معجباً بنهج أردوغان السياسي، ويعجبني إنجازه الاقتصادي، وتسامحه الاجتماعي، وأنا لست معنياً بالتمجيد، أو التنديد، وليس مطلوباً مني ذلك، فالأمة الآن محرومة من المرجعية قسراً بسبب بيت المقدس، وهذا شأن تركي خالص، ومسألة وطنية صرفة تخصهم، لكن القرار مر بمراحله وإجراءاته النظامية كافة، ووقع عليه في النهاية رئيس منتخب لعدة مرات، ومر بمراحل شتى على مدار 18 عاماً، وقبلها ترأس بلدية إسطنبول لفترة طويلة، ويعرف دواخل شعبه الذي يجمع على الخطوة بنسبة عالية جداً رغم تنوعه العرقي، والسياسي والمذهبي.

إنني أتعجب من هذا الاحتراب “الفيسبوكي” بين العرب، على عرس عند الجيران، ولا ينفع معه إحجامهم أو إقدامهم فيه.

أربكان لم يستطع الإقدام على هذه الخطوة، بل انقلب عليه الجيش وأطاح به، وزجه في السجن، وقبله أعدم كثيرون فكروا في هذه الخطوة، مثل الرئيس عدنان مندريس، ولكن أردوغان قطف حصاد ما زرعه السابقون طيلة عقود، ولكن تركيا شهدت تحولات كبيرة، وهو نفسه صبر على منع ابنته من الدراسة بسبب حجابها.

يا هؤلاء، العثمانيون ليسوا أكثر من عشيرة صغيرة فرت من ويلات المغول، فالبابا الذي فشلت حملاته الدموية في الشام رغم ذبح 10 ملايين عربي، تحالف مع المغول الذين زحفوا لسحق مدن تركية عملاقة، مثل مرو، وبخارى، وسمرقند، ونيسابور، وبلخ وغيرها، في زحف مداه 9 آلاف كيلومتر، وكلفة حصدت أرواح 40 مليون مسلم عجمي، وخسارة مئات الآلاف من المساجد، ومدن تركت ركاماً إلى اليوم، فهذا هو حق السيف، والعثمانيون لهم حق الفتح لإسطنبول ومسجدها، الذي كان مقراً ومستقراً لإمبراطور بيزنطة، التي ولغت في دماء المسلمين وثغورهم لسبعة قرون، فكان لا بد من نقل عاصمة الإسلام إلى عقر دارهم في أوروبا، بعدما فتكت محاكم التفتيش بالمسلمين في غرب أوروبا التي ما زالت مساجدها كنائس، وتم تحويل ديانة ملايين الموريسكيين عنوة، ومدنهم مليئة بتماثيل الرؤوس المقطوعة للضحايا المسلمين، ومنذ أيام استعادت الجزائر بعض تلك الرؤوس التي تكشف مخازيهم.

إن دخول البلاط الإمبراطوري (آيا صوفيا) كلف العثمانيين نحو 500 شهيد في كل خطوة عام 1453م، لأن طلائع رواد الأنفاق أُحرقوا بالزيت المغلي، وأبادت حماة الأسوار صفوف المسلمين الأولى، ولكن توفيق الله، ثم إبداعات محمد الفاتح، صاحب البشرى النبوية الشريفة له ولجيشه، وابتكاراته غير المسبوقة، لما استطاع أن يفتح المقر الإمبراطوري، ولما دخل السلطان وقف أمامه العلامة الشيخ آق شمس الدين، ليفرض حدود الشرع في العدل، والإنصاف، والمعاملة الحسنى للأوروبيين والأرمن وطلبة العلم: “إن الله يأمركم بالعدل”، علماً بأن السلطان كان عالماً، وحافظاً، ومحدثاً، وفقيهاً، ويتحدث 7 لغات منها اللاتينية، وتعامل بالتزام حضاري متقدم بقرون على الهمجية الأوروبية السائدة آنذاك.

يا نشطاء “فيسبوك”، الأفارقة الأمريكيون هزوا عرش ترمب لأجل جورج فلويد المظلوم، وأما المغدور المسجد الأقصى، ومعه 1200 مسجد هدمها الاحتلال، والتهويد اليومي لا يحرك فيكم شعرة، فالواجب المتوجب هو الانشغال بالأولويات هنا، وترك أمر الكنيسة، والمتحف، والمسجد لأهلها هناك.

فلو خضعنا لمنطق البعض، فإن المسجد الأقصى وهو آية في القرآن، سيؤول إلى صفرنيوس، والمسجد الأموي سيؤول أمره إلى جبلة بن الأيهم لأنه كان أرثوذكسياً، ومكة كان فيها أبو جهل.

إسطنبول اليوم أكبر مدينة في العالم، بمأهولية تصل إلى 18 مليون نسمة، وفيها 4875 مسجداً، ونسبة المسلمين فيها 99.5%، ومواطنوها المسيحيون لهم كل الاحترام، ورممت الدولة كنائسهم الأرثوذكسية، بينما لا تسمح موسكو لمليونين وربع المليون من مسلميها، إلا بـ5 مساجد رغم أن الإسلام دخل موسكو قبل المسيحية بقرن كامل!

هناك حقائق، وهناك أمر واقع، يجب ألا نتغاضى عنه وننشغل بهجاء الآخر الذي يشغله الإنجاز عن فك الألغاز.

(*) نائب في مجلس النواب الأردني،‏ ‏‏ الرئيس السابق للائتلاف العالمي لنصرة القدس وفلسطين

Exit mobile version