نشر مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبغنيو بريجنسكي (ت 2017م)، كتباً عديدة تصب في مجال السياسة والاقتصاد ومستقبل العالم، منها، “الفرصة الثانية، رقعة الشطرنج الكبرى، الفرصة والفوضى.. إلخ”، ورغم معلوماته الغزيرة كدبلوماسي مخضرم وسياسي وأكاديمي، فإن نقده لبعض نواحي السياسة الأمريكية لم يكن محايداً في كثير من طروحاته الدولية حولها بسبب كرهه الشديد للشيوعية – الأممية، التي عاش صعودها وانهيارها، وموقفه المبهم من صعود الصين السريع رغم تبنيها أيديولوجية شيوعية في الداخل، واقتصاداً مفتوحاً على العالم، وهي تجربة جديدة وناجحة حتى الآن، مع أنه عمل على تطبيع العلاقات مع الصين عندما كان دبلوماسياً، ولكنه لم يتخلَّ عن مرتكز أساسي في كل طروحاته بأن الولايات المتحدة يجب أن تبقى القوة الرائدة في العالم، وأن هذا القرن هو القرن الأمريكي، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشرقية عام 1991م، وأنه باتباع المنظومة الأمريكية سيبقى العالم بعيداً نوعاً ما عن الفوضى.
وفي كتابه “الفوضى”، الذي يتحدث فيه عن أجواء الاضطراب العالمي عند مشارف هذا القرن الذي كتبه في نهاية القرن الماضي، ويسمي فيه القرن العشرين بقرن “الموت الملاييني”، بعد أن يستعرض أكثر من ثلاثين حرباً جرت فيه وكان أهمَّها الحربان العالميتان الأولى والثانية، التي ذهب ضحيتهما أكثر من 80 مليوناً من البشر على أقل تقدير، ويعزو أسبابها للدكتاتوريات الشيوعية والنازية واليابانية، ولا يذكر فيها المطامع الاستعمارية الغربية إلا على استحياء، التي هي من أسباب الحروب ولا تزال، ويصورها بأنها كانت السبب في تخلص العالم من هذه الأنظمة القمعية.
ولا يخفي بريجنسكي مطلقاً ذكره للمذابح التي قام بها الألمان ضد اليهود والغجر والبولنديين وربما بسبب أصوله اليهودية البولندية، في حين لا يحدد هويات ضحايا النظام الشيوعي السوفييتي، ولا يذكر المذابح التي حلت بالمسلمين في أثناء حكم ستالين ومن جاء بعده، ولا يتطرق لمذابح مسلمي البوسنة والهرسك على يد القوات الصربية أو بالفلسطينيين على يد الإسرائيليين، الذي نعتقده أن ذلك يمثل جزءاً من الفوضى الفكرية والأنانية التي يعاني منها الغرب الإمبريالي عموماً والأمريكي على الأخص.
وفي معرض تحذيره عن الفوضى التي ستعقب القرن العشرين التي عاش شطراً منها في حياته، التي ربما عبَّر عنها نتيجة كونه أحد مخططي الساسة الأمريكية، فإن المنطقة العربية ستكون أقرب إلى المستعمرة الأمريكية حتى ينفد منها النفط، ولو أنه لا يلمح إلى ارتباط المسألة بأمن “إسرائيل” لأن ذلك تحصيل حاصل ولا يريد أن يخوض فيه لأنه من الممنوعات على أقل تقدير.
ومن الأمور التي يلمح لها في هذا الكتاب إلى ما يسميه “عقبة الإسلام”، الذي يشكل تهديداً للحضارة الغربية وثقافتها، ويحذر بأن الفكر الإسلامي بأوجهه العديدة سيزداد تجذره كلما اشتدت محاربته وهو ما يدفع للتطرف والعصبية، التي استغلته الدوائر الغربية في تشويه صورة الإسلام الحقيقية.
ويلمح بأن ذلك يعد وجهاً آخر لفوضى القرن الحالي التي بالتأكيد لن تكون مماثلة لفوضى القرن الماضي، حيث يصف في كتبه اللاحقة الغزو الأمريكي للعراق والتخبط السياسي والعسكري الذي رافق الغزو واستغلال إيران لكل الأخطاء لصالحها بالمغامرة الفاشلة التي أسقطت إمكانية قيادة أمريكا للموقف العالمي، خصوصاً أنه جاء بعد مغامرتي أفغانستان والصومال.
إن قسماً من هذه الفوضى أدخل الولايات المتحدة في مرض الشيخوخة المبكرة، خصوصاً أن السقوط المدوي للاتحاد السوفييتي أعقبه صحوة روسية عقدت العزم على عدم تكرار الماضي، ودخلت في تحالفات غير خفية مع قوى ناشئة خصوصاً الصين وتركيا.
إن الفوضى التي رافقت دموية القرن العشرين ليست بعيدة عن آفاق هذا القرن، ولكن بسيناريوهات أخرى فرضتها حروب المياه والتقدم التكنولوجي السريع ودخول أسلحة أكثر فتكاً من الحروب النووية، وربما كانت جائحة كورونا التي تجتاح العالم بطوله وعرضه وبدون تمييز، هي ناتج ما ينتظره العالم من نتائج فوضى لم تحسم نتائجها بعد، خصوصاً بعدما انعكس ذلك على ركود اقتصادي هائل يعيد للأذهان ركود عام 1929م، الذي كان مقدمة للحرب العالمية الثانية، حيث انعكست هذه الفوضى على العلاقات الأمريكية صاحبة اليد الطولى في العالم على شكل حرب خفية مع الصين ومن اتبعها وهي قوة صاعدة، ربما سيتقرر مصير مستقبل العالم على مدى ونوعية الصدام الذي سيحصل مع الولايات المتحدة الأمريكية إن بقيت الأمور على ما عليه هذه الأيام من اتهامات وتصعيد للمواقف بين البلدين، حيث بدأت ملامح الحروب البيولوجية أقرب للأذهان من أي وقت مضى.
على كل حال، فإن هذا القرن لن يكون قرناً أمريكياً بامتياز لما ذكرناه أعلاه، ولبقاء النزعات الإقليمية والقومية والطائفية تغزو مناطق كثيرة في العالم، مثلما يحدث في ميانمار وبين الهند وباكستان، ناهيك عن الفوضى العارمة التي تجتاح قلب العالم ألا وهو الشرق الأوسط وقلبه العراق، ولا ننسى أن بؤرة الفوضى ما يحدث من تجاوزات إسرائيلية بحق فلسطين وأهلها وربما الشرق كله.
لقد اختلط مصطلح الحروب والصراعات الدموية المميتة مع مصطلح الفوضى في كتاب بريجنسكي آنف الذكر، لأن الفوضى تعقب الحروب، فهل هذا ما ينتظر عالمنا في قرننا الحالي الذي تسوده طباشير الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، وهجرة الفقراء والذين تعاني مناطقهم من مشكلات بشكل لم يسبق له مثيل بالتاريخ نحو البلاد المستقرة والآمنة، حيث تسود القارة العجوز بعض النزعات الشوفينية نتيجة لذلك، وربما ستؤدي إلى اضطرابات مستقبلية عميقة.
إن تطور عالم الاتصالات والأنترنت ودخوله في كل مفاصل الإعلام سيجعل نوعية الاضطرابات التي ستسود العالم أمراً لا يمكن التنبؤ به بسهولة ويسر، فأمريكا العسكرية في كل مكان وروسيا في سورية وليبيا، والأصابع الاقتصادية للصين تغزو العالم، فأين يسير هذا القرن؟