الطريق إلى الإيمان

في كلّ يومٍ يكتشف الإنسان سرّاً من أسرار الكون، ويعرف أمراً لم يكن يدركه من قبل، ويصل إلى حقائق مذهلة تغيّر نظرته إلى العالم وما حوله.. ومن هذا يتميز عصرنا الحديث بأنه عصر التطور العلمي، حيث تمكن الإنسان من أن يطّلع على أسرار السماء وخبايا الأرض بواسطة ثورات علمية وتكنولوجية، ومن خلال توسيع العلوم الحديثة المعرفية، وتطور للمخترعات وللمكتشفات، فإذا بالمعلومات تأتي كاشفة المجهول، وتبين جوانب جديدة مثيرة للإعجاب ومدهشة للعقول، فكثير من الضوابط العلميّة التي ظنَّ الناس أنّها من المسلّمات تزعزعت بعد ثبوت، وتقوّضت بعد رسوخ، فاستأنفت التجارب فيها مرة أخرى.

إذا تعمقنا في البحث عن بواعث التغيُّرات، وجدنا أنّ العلوم الحديثة قد بلغت في عصرنا أوجهاً، اكتشفت غوامض الكون وكوامن العالم إلى أسرار الحياة حتى أظهر بواطن الأمور؛ فأخضع عظائم القوات، وسخرها كيفما شاء، فملك ناصية العلم، وأغدق على الإنسان أنواعاً من النّعم، ووفّر سبل الحياة المتنوعة التي جعلها سهلاً ميسوراً بعد ما كانت شاقةّ وعسيرة، ومن هذا يتّضح بجلاء أنّ العلوم الحديثة بجميع أنواعها وفروعها تخدم الإنسان، وتزخر دنياه بمتاع العيش، وتجلب عليه رغداً وهناء؛ ما كانت معدومة في الأيام السالفة.

مهما كانت منافعها بكثرة كاثرة على حيزة الدنيا؛ ولكنّ حسناتها ونائلاتها تكمن في طيّاتها منافع أخروية، تغذّي روح الإنسان وترسخ دعائم الإيمان، ولَيْس في مقدور باحثٍ يُمْعن النظر في هذا العلم أن يجحدها بتاتاً؛ لأنّ هذا العلم قد أطْلع الإنسان على اكتشافات تُدهش العقول، وتُثبت الذات الفردية التي لا يحيط بها علم الإنسان، وتضطره إلى الإذعان أمام هذه الذات، فأنا لا أجحد أنّ البشر قد اطلع على بعض أسرار الحياة وكوامن العالم عن طريق الوحي؛ ولكن عقله كان حائراً يحومه الشك والريبة إلى أن أتى عصر العلم الحديث، فوقف على جد الاكتشافات باستمرار ودراسة شاملة، ولكي لا أكون من المغالين في هذا الصدد، سأسوق نبذة من مكتشفاته من الحقائق الكونيّة تؤدي استيعابها إلى إيناس العقول بالإيمان، وحتى نقف من خلالها على مدى نفعها، وتكون دليلاً على أحقيّة الإسلام وسبباً في تعميق الإيمان بالله تعالى وقدرته:

الحياة في النباتات والجمادات:

كان الإنسان في الزمن القديم يخص الحياة بالحيوانات دون الجمادات؛ لعدم وجود حركة ظاهرة بينة وروح تشهدان على نبض الحياة فيها، وعندما طرق سمعه قول الله تبارك وتعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) (الإسراء: 44)، وكان هذا خفياً على الأذهان، فالتبس عليه الأمر، والذين آمنوا قالوا: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا) (القصص: 53)، وأمّا من كفر قال: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً) (البقرة: 26)، فساقهم التأويل إلى القول بأنّ فيه نوعاً من المجاز، والتسبيح المضاف إليها ليس إلّا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تبارك وتعالى.

ولكنّ العلم الحديث قد قام بعمل مجيد مثير للإعجاب، حيث اكتشف لنا أنّ الحياة لا تختصّ بالحيوانات، بل تشمل النباتات والجمادات، تتنفّس بنّظام تنفّسي مخصص يُقال لها: “بروتوبلازم” (Protoplasm)؛ “تعد في علم الأحياء الأساس الحيوي للكائن الحي، وهو التركيب الذي له القدرة على القيام بعمليات الأيض من هدم وبناء، ويقوم بجميع متطلبات الكائن الحي من تكاثر واستمرارية وثبات، وهكذا تدبُّ الحياة في كلّ شيء، ولكنّ العيون العادية والماديّة لا تدركُ هذا المشهد الكوني البديع”.

جريان الشمس:

وكانَ من المظْنون أنّ الشمس ثابتةٌ ومستقرّة في مكانها، وعندما تصافح الأسماع بقول الله تبارك وتعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يس: 38)، وقعت الريبة في النفوس سريعاً، وهذا ثبت من حقيقة حفظتها ذاكرة التاريخ بأنّ المسلمين قبل مجيء القرن العشرين كانوا موقنين بجريان الشمس في قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، ولذلك عندما قال العلماء: إن الشمس ثابتة والأرض تدور حولها أنكر علماؤنا عليهم هذا القول؛ لأنه يخالف صريح قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي)، وهذا حقهم؛ لأن القرآن هو الأصل وهو الحقيقة المطلقة، أما العلم فهو نسبي متغير، والعجيب أن علماء الغرب بعد أن قالوا بثبات الشمس تراجعوا عن قولهم! وقالوا: إن الشمس تدور حول مركز المجرة، ثم بعدما تطورت علومهم وجدوا أن حركة الشمس هي حركة اهتزازية تشبه جريان الخيل، واستخدموا كلمة “Stream”؛ وتعني “جريان”، في وصف حركة الشمس.

ولكنَّ العلم الحديث كشف المجهول وصرح بوضوح بأن الشمس تجري فعلاً في اتجاه واحد في الفضاء الهائل بسرعة، فقد قال علماء وكالة “ناسا”: إنّ الشمس تجري باتجاه نقطة يسمونها “المستقر” (Solar Apex)، وهنا تتجلى معجزة القرآن عندما أخبر بهذا الأمر بدقة: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40).

دوران الأرْض:

اعتقد بعض علمائنا قديماً أن الأرض ثابتةٌ، والشمس والنجوم والكواكب تدور حولها، وقبل أكثر من ثلاثين عاماً أصدر بعض الفقهاء فتوى تقول بعدم دوران الأرض حول الشمس؛ وذلك بسبب اقتصارهم على فهم النصوص الشرعية وتجردهم عن فهم التطور العلمي ومواكبته بما يتفق مع الحقائق العلمية الجديدة.

فقد اكتشف لنا العلم الحديث بأن الّذين يطرحون فكرة ثبات الأرض لم يطّلعوا جيداً على مبادئ علم الفلك، ومن أهمها قانون التجاذب الكوني، وهو القانون الذي نفسر به تماسك الكون وعدم انهياره، وعدم حدوث تصادمات تؤدي إلى زوال الكون، وهذا ما أشار إليه القرآن في آية عظيمة: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) (فاطر: 41)، فالله تعالى بقدرته يمسك هذا الكون وسخر من أجله قانوناً لا يختل أبداً وهو قانون التجاذب الكوني.

ربما تعجبون معي إذا علمتم أن أهم بضعة اكتشافات كونية قد كشفها القرآن قبل أكثر من أربعة عشر قرناً في زمن كانت علوم الفضاء عبارة عن شعوذة ودجل وخرافات وأساطير، وقد أودع الله هذه الحقائق الكونية في كتابه لتكون دليلاً على كل مشكّك في هذا العصر يرى من خلالها نور الحق وعظمة رسالة الإسلام، ومن أهم هذه الحقائق:

اكتشاف بداية الكون:

من أهم اكتشافات القرن العشرين أن العلماء دحضوا فكرة الكون الأزلي الخالد! وأثبتوا بالبرهان القاطع أن للكون بداية على شكل انفجار هائل سمي الانفجار العظيم، وقد بدأ العلماء يكتشفون تفاصيل هذا الانفجار، وقالوا: إن الكون كله كان كتلة واحدة؛ فانفجرت وتشكلت المادة، وخلال مليارات السنين تطور الكون إلى شكله الحال، ونرى بعض العلماء يفضلون استخدام مصطلحات أكثر دقة من مثل: “انفجار” أو “تباعد” أو “كثافة”.. المهم أنهم يريدون أن يصلوا إلى نتيجة تقول: إن الكون بدأ من كتلة واحدة (رتقاً)، ثم تباعدت أجزاؤها (انفتقت)، وشكلت النجوم والمجرات والأرض.

إن القرآن سبق علماء الغرب بأربعة عشر قرناً إلى النتيجة ذاتها في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) (الأنبياء: 30).

والسؤال لكل من ينكر صدق القرآن: من كان يعلم زمن نزول القرآن بأن الكون كان كتلة واحدة (رَتْقاً) ثم انفتقت وتشكل الكون الذي نراه؟ أليس هو الله جل وعلا!

اكتشاف نهاية الكون:

نظريات كثيرة وُضعت لتصور نهاية الكون، تختلف فيما بينها، ولكن العلماء يتفقون على أن للكون نهاية، ولا يمكن أن يستمر التوسع لما لا نهاية بسبب قانون انخفاض الطاقة الذي يقرر أن كمية المادة والطاقة في الكون ثابتة، وبالتالي سوف يتوقف الكون عن التوسع ويبدأ بالانكماش على نفسه والعودة من حيث بدأ! والعجيب أن القرآن أشار إلى هذه النهاية للكون، بل وحدد شكل الكون وهو مثل الورقة المنحنية، وهذا الشكل هو الذي يقرره معظم العلماء اليوم، قال تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104).

اكتشاف الثقوب السوداء:

إنّها ظاهرة عظيمة بحثها علماء الفلك لأكثر من نصف قرن، وتأكّدوا أخيراً من وجودها؛ وهي ما يسمى “الثقوب السوداء”، حيث يؤكّد العلماء أنّ النّجوم تكبر حتى تنفجر وتنهار وتتحول إلى ثقب أسود بجاذبية فائقة تجذب لها كل شيء حتى الضّوء لا تسمح له بالمغادرة فلا نراها أبداً.

ويصف العلماء هذه المخلوقات بثلاث صفات؛ فهي لا تُرى، وهي تجري، وهي تكنُس وتجذب أي شيء يقترب منها، والعجيب أن القرآن كشف لنا هذه النتيجة الدقيقة في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ {15} الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) (التكوير)، والخُنَّس: أي التي تخنُس فلا تُرى، والجوار: أي التي تجري بسرعة، والكنَّس: أي التي تجذب وتكنس صفحة السماء، وهذا ما يقرره العلماء.

اكتشاف الحياة في الفضاء:

بعد اكتشاف آثار لحياة بدائية على سطح أحد النيازك القادمة من الفضاء الخارجي، بدأ العلماء بالسفر عبر الفضاء لاكتشاف المخلوقات الكونية، وبعدما تأكدوا من وجود الماء على سطح المريخ وكواكب أخرى، أصبح لديهم حقيقة كونية تقول: إن الحياة منتشرة في كل مكان! هذه الحقيقة التي لم يتأكد منها العلماء إلا في القرن الحادي والعشرين، طرحها القرآن في القرن السابع الميلادي في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) (الشورى: 29)، وبالفعل يقول العلماء: إن هناك إمكانيّة كبيرة لاجتماع سكان الأرض بمخلوقات من الفضاء!

نشأة الإنسان:

وقبل أن أضع القلم عن يميني لا بأس بإيراد مثال يّؤيّد ما أخوض فيه الآن، وهو أنّ كلّ من يدرس الطِّبّ، يعلم جيّداً أنّ الإنسان قد خُلق من قطرة مني دافقة، ولكنّ يصعب عليه فهم هذه الآية الكريمة: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ {5} خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ {6} يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق)، فكان هذا سرّاً لا يعلم حقيقته إلّا الله جلّ شأنه إلى أن اكتشف لنا العلم الحديث بأنّ ماء المرء يتكوّن في عظام الظهر الفقّاريّة وهي الصُلْب، حيثُ الشريان من الوتين الّذي يكون متصلاً بالظهر الفقّاريّة، وأمّا ماء المرأة فيتكون في عظام الصّدر العلويّة وهي التّرائب، حيث يلتقيان في قرار مكين فيخرج منه الماء.

هذا وما ذكرنا من المكتشفات العلوم الحديثة، لا نقصد منها إلا الاستدلال على أنّ هذه وأمثالها تتمكّن في طيّاتها عوامل الأهمية الكبيرة في تقوية الإيمان، ودفع الفتن التي أَلْبَسها الإلحادُ ثوبَ العلمِ عن عقول الإنسان، وفي دعوة غير المسلمين إلى هذا الدين القويم، وفي فهْم خطاب قرآننا الكريم، وفي حفز المسلمين إلى الأخذ بأسباب النهضة العلمية التي تتوافق مع ديننا الحنيف.

وهذه المكتشفات الحديثة أو ما يعادلها تدعو الدارس والباحث إلى أنّ التّدبّر في الآيات القرآنيّة التي نزل بها الروح الأمين على قلب النبيّ الأمين صلى الله عليه وسلّم إنّما يزيد الإيمان والإيقان، ويشقّ الطّريق إلى المعرفة بربّ العالمين، وما يرجى من تدبّر الدارس والباحث سوى أنْ يُثمر له تدبّرهُ في الآيات القرآنيّة كمالاً في الإيمان ورسوخاً فيه، وهي النهاية التي ينتهي إليها إيمان كلّ نفس، وكلها تشهد على صدق قول الحق تبارك وتعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53).

 

 

______________________________________

(*) رئيس جمعية السلام التعليمية والخيرية بيغوسرائي، بيهار، الهند، مقيم بدولة الكويت.

Exit mobile version