العنصرية.. قراءة نقدية في الأصول الفكرية

يستند مفهوم «العنصرية» إلى مجموعة من المبادئ الفكرية التي قام عليها، من أهمها:2020-07-08_10h41_10.jpg

1- الشعور بالتفوق (الجنسي، العرقي، الطبيعي..) لدى مجموعة من الناس (فئة، جماعة، مجتمع، شعب، أمة)، نحو جنس آخر أو فئة أو جماعة أو مجتمع.

2- الاستناد إلى معتقدات خاطئة تم صياغتها في صورة علمية، مثل أن اختلاف الجوانب التشريحية والوراثية لبعض الفئات يجعل لها تميزاً، عند قطاع أو فئة من البشر، أو انحطاطاً وتخلفاً عند فئة أخرى.

3- النظر المتدني لقطاعات من البشر لأسباب بيئية (لون البشرة)، أو أسباب اقتصادية (الفقر)، أو أسباب حضارية (التخلف الحضاري)، أو أسباب دينية (المخالفة الاعتقادية).

العنصرية في القاموس الغربي:

يعود مفهوم «العنصرية» في جذوره إلى كلمة «عرق، جنس»، وظهرت هذه الكلمة في اللغات الأوروبية في القرن السادس عشر للميلاد، للإشارة إلى وجود مجموعة من البشر يمكن إرجاع خصائصهم المتشابهة إلى أصل سلالي مشترك، وظهرت في الكتابات الأوروبية إشارات متعددة إلى الفروق بين العرق الأوروبي، وكل من الأعراق والأجناس الأفريقية أو الآسيوية وغيرهما(1).

 من ناحية أخرى، استخدمت كلمة «العنصرية» في الكتابات السياسية الأوروبية ذات الاتجاه العنصري، لتأكيد وجود أنواع من البشر تتفاوت من حيث ارتقاء خصائصها العقلية والسلوكية بسبب خصائص تشريحية متمايزة، وذلك رغم تكذيب تطورات علم الوراثة والتشريح لهذا المعتقد الخاطئ؛ فالاختلافات التشريحية والوراثية لا ينتج عنها تمايزات تشير إلى الرقي أو الانحطاط، وإنما تنتج تمايزاً في الثقافات(2).

«هيجل».. والتأسيس الفلسفي للعنصرية: 

من أبرز الفلاسفة الذين قاموا بالتنظير لمفهوم «العنصرية» في الغرب، واتخذ مواقف عنصرية مبكرة نحو الآخر، ما قدمه الفيلسوف الألماني «هيجل» (1770 – 1831م)؛ حيث كتب تحت عنوان «الأساس الجغرافي لتاريخ العالم» مستبعداً قطاعاً كبيراً من البشر رآه، حسب تصنيفه، أنه لا يمتلك مؤهلات «الإنسانية» التي تجعله مؤهلاً بالتبعية لصنع تاريخ العالم، والإسهام في حركته! ورد التاريخ وحركته وحضارته إلى أوروبا التي تمتلك من الناحية الجغرافية، بحسب وجهة نظره، كل عناصر الجغرافيا الحضارية والتاريخية.

استند «هيجل» في هذه الرؤية العنصرية إلى ما أسماه بالروح الطبيعية؛ أي العلاقة مع الطبيعة، فالعلاقة مع الطبيعة تساعد على إنتاج روح شعب ما، والمبدأ الخاص الذي يجسده كل شعب من شعوب التاريخ يكون بمثابة خاصية طبيعية له(3).

في ضوء هذا المبدأ، فإنه بحسب التصنيف الجغرافي للعالم، يمكن تحديد خارطة للإنسان صانع التاريخ، والإنسان الذي لا تمنحه الطبيعة تلك القدرة، فيتخلف عن المشاركة، ومن ثم لا ينضم إلى الإنسانية الفاعلة في حركة التاريخ، ففي المنطقة المتجمدة والمنطقة الحارة لا يوجد الموقع المحلي المناسب لظهور شعوب التاريخ العالمي؛ وذلك لأن الوعي المستيقظ يظهر محفوفاً بالمؤثرات الطبيعية، وكل تقدم له انعكاس الروح على نفسها في مقابل الطبيعة مباشرة، فالمناطق المتطرفة (التجمد، والحرارة الشديدة) لا يستطيع الإنسان أن يكون حراً في حركته، فالبرد والحر في تلك المناطق من القوة بحيث لا يسمحان للروح أن تقيم عالماً لذاتها(4).

يعتمد «هيجل» في طرحه لهذه المبدئية على مقولة «أرسطو»: «حينما تشبع الحاجات الملحة، ينتقل الإنسان إلى طلب الأمور الرفيعة ذات الطابع العام»، والحقيقة رغم جدارة هذه المقولة وضرورتها الإنسانية، فإنها ترافق بين الإنسان وجانب من الحيوانية، حيث تشير إلى أن الإنسان لا يستطيع خدمة المبادئ ما دامت الحاجات الطبيعية يصاحبها خلل الإشباع، ولا شك أن مبادئ التضحية بالنفس، على سبيل المثال، التي شهدها التاريخ الإنساني، وما زال، من أجل المعتقد أو الوطن أو غير ذلك من المبادئ الرفيعة لدى شعوب الأرض المستعمرة، تدحض هذا المبدأ وتؤكد تهافته. 

يصر «هيجل» متغافلاً عن حقيقة أن القيم الإنسانية تعلو لدى الإنسان عن الحاجات الطبيعية –وهو ما أثبته التاريخ في كثير من التجارب والشواهد- ويذكر بأن «الإلحاح والضغط الشديدين في المناطق المتطرفة لا تخف وطأته ولا يمكن تجنبه، ويضطر الإنسان أن يوجه اهتماماً مباشراً إلى الطبيعة، إلى أشعة الشمس المتقدة، أو إلى الجليد المتجمد، وعلى ذلك؛ فإن مسرح التاريخ الحقيقي هو المنطقة المعتدلة أو بالأحرى النصف الشمالي منها»(5).

«هيجل».. والرجل الأفريقي:

ينحو «هيجل» في نظرته «العنصرية»، وتأسيسه لهذا المفهوم منحى الرجل الأفريقي الذي يراه –طبقاً لتصوراته المتهافتة عن الأساس التاريخي للعالم- بأنه لا يستطيع في ذاته الإسهام في حركة التاريخ، بل هو ممن يستهلك الحضارة، بل ويدمرها.

يقول «هيجل» عن الرجل الأفريقي: «إن السمة البارزة للحياة الزنجية هي أن الوعي لم يبلغ بعد مرحلة التحقيق الفعلي لأي وجود موضوعي جوهري مثل الله، أو القانون، اللذين يرتبط بهما مصحة الإنسان، وفيهما يحقق وجوده العيني الموحد، الذي يتسم بالبساطة والتخلف، لم يبلغ الزنجي بعد تلك المرحلة التي يميز فيها بين ذاته بوصفه فرداً، وكلية وجوده الجوهري؛ بحيث إنه يفتقر تماماً إلى معرفة أن هناك وجوداً مطلقاً أعلى من وجوده الفردي، فالرجل الزنجي يمثل الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروضة تماماً، وإذا أردنا أن نضع جانباً كل فكرة عن التبجيل والأخلاق وكل ما نسميه شعوراً أو وجداناً؛ فلا شيء مما يتفق مع الإنسانية يمكن أن نجده في هذا النمط من الشخصية»(6)

هكذا يصنف «هيجل» الرجل الأفريقي على أنه خارج الإنسانية، ولا يستحق الوصف بها، بل هو كائن ذو مخاطر على الحضارة، إما أن يتم ترويضه، أو سيلحق الضرر بالإنسانية، ومن هنا فتح «هيجل» الطريق أمام حركة الاستعمار لترويض هذا الأفريقي واستغلاله باستعباده للإنسانية البيضاء (أوروبا)، على حد وصفه وقناعته الذاتية المنحازة والمتهافتة.

إن الأحكام التي بنى عليها «هيجل» رؤيته العنصرية لم تكن نتيجة لشواهد أو تجارب مع الرجل الأفريقي، وإنما كما يذكر أنه اعتمد في ذلك على روايات المبشرين في أفريقيا، رغم ما هو معروف من عداء بين حركة المبشرين والثقافة الأفريقية التي جعلت مهمتهم صعبة وفي حالة عدائية مع الشعوب الأفريقية، إلا أنها سكنت العقل الأوروبي وانتقلت معه إلى أمريكا الجديدة.

تهافت «هيجل» ذاتياً:

يستمر «هيجل» في تهافته، في عنصريته نحو الرجل الأفريقي، فيصفه بأنه يحتقر الحياة ولا يأبه بها؛ لذلك فهو يقاوم المستعمر بحياته التي يفقد معناها! ويذكر في ذلك قوله: «إن السمة التي يتميز بها الزنجي في احتقار الإنسانية ليست هي ازدراء الموت، بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة، وينبغي أن نعزو الشجاعة العظيمة التي نجدها عندهم إلى سمة افتقارهم لاحترام هذه الحياة، وهذه الشجاعة تظهر عند أولئك الزنوج الذين كان الآلاف منهم يتعرضون للموت برصاص الأوروبيين وهم يقاتلونهم»!

إن قول «هيجل» هذا يدحض نفسه، ففي حين يرى أن القيم العليا لا توجد عن الزنوج، فإنه يتجاهل قيمة التضحية بالنفس ضد المستعمِر، وقيمة الوطن التي تساوي الحياة أو أكثر، وقيمة الحرية التي هي أكثر رفعة من حياة العبودية، وهذه كلها تمثلت في مقاومة الأفريقي للمستعمر، بيد أن «هيجل» كان عليه أن يرى أن الأوروبيين (المستعمرين) هم الذين يحتقرون حياة الإنسان، ولا يأبهون بحريتهم، ولا بقيمة الوطن والشرف، وراحوا يقتلون الإنسان المستعمَر بكل وحشية وبلا ذنب، فمن الذي توارت عنده القيم العليا؛ القاتل أم المقتول؟! المستعمِر أم المستعمَر الذي اتخذ من قيمة المقاومة والحرية أملاً في استقلال وطنه؟

 

 

 

 

 

 

_______________________________________

(1) سامي خشبة: مصطلحات فكرية، ص 384.

(2) المرجع نفسه، ص 385.

(3) هيجل: العقل في التاريخ، ترجمة وتقديم وتعليق: إمام عبدالفتاح إمام، ص 157.

(4) المرجع نفسه، ص 158.

(5) المرجع نفسه، ص 158.

(6) المرجع نفسه، ص 179.

Exit mobile version