بطش الشرطة بالسود متجذر في تاريخ أمريكا العنصري

اندلعت الاحتجاجات في مدينة مينيابوليس بعد قتل الشرطة للمواطن الأمريكي من أصل أفريقي “جورج فلويد”، الأسود البالغ من العمر 46 عاماً، وأظهر مقطع الفيديو الذي تم تداوله على نطاق واسع يوم القبض على الضحية ضابط شرطة أبيض يضغط بركبته في عنق “فلويد”.

ويذكرنا قتل “فلويد” بذكرى قتل شرطة نيويورك “إريك جارنر”، وهو يئن مردداً: “لا أستطيع التنفس”، بينما يتجاهل الضابط أنينه وتوسلاته، وجاء مقتل “فلويد” بعد شهرين من قيام ضابط شرطة في لويزفيل بإطلاق النار على “برونا تايلور”، وهي مسعفة تبلغ من العمر 26 عاماً، خلال اقتحام شقتها.

بينما يدمر فيروس «كورونا» مجتمعات السود بمعدل أعلى، بشكل غير متناسب، من المجموعات العرقية الأخرى، قُدِّر على هؤلاء السود أن يواصلوا مواجهة تهديد آخر؛ هو بطش الشرطة، والمشكلتان ناتجتان عن عنصرية هيكلية مؤسسية منتشرة في الولايات المتحدة، ولكن معضلة بطش الشرطة المعروض اليوم معضلة متجذرة بعمق في نسيج الحياة الأمريكية تتجاوز خطر جائحة «كورونا».

وجاء مقتل كل من «فلويد»، و»تايلور» بعد نمط مأساوي من العنف العنصري الذي تقره الدولة، وهذا للأسف هو الذي شكل التاريخ الأمريكي لقرون؛ ففي حقبة العبودية كانت حياة السود تقيَّد بأنواع من الأغلال من قبل مجموعات منظمة من البيض الذين كانوا يقومون بحراسة الرقيق المستعبدين.

الرموز السوداء

وفي أعقاب الحرب الأهلية، أدى ظهور ما يسمى بــ «الرموز السوداء» إلى الحد من حقوق السود وحركتهم، وتشجيع قوات الشرطة الناشئة آنذاك، وجماعات اليقظة البيضاء، على القيام بأعمال عنيفة وشائنة تحت ستار القانون والنظام.

وتم في جميع أنحاء البلاد استهداف السود من قبل قوات الشرطة، والقبض عليهم بمعدلات أعلى من نظرائهم البيض، وفي الولايات الجنوبية ظلوا محاصرين في نظام من القيود التي تعكس تاريخاً من الاسترقاق والعبودية.

وفي بداية القرن العشرين، ظهرت عمليات الإعدام الوحشي كتكتيك آخر للسيطرة على حياة وحركات السود؛ فأيدت قوات الشرطة العنصرية عنف الغوغاء البيض بدلاً من تحديه وتحجيمه، وكما لاحظت الناشطة المناهضة للإبادة الجماعية «إيدا بي.ويلز-بارنيت» على موقع «السجل الأحمر»، فإن عمليات إعدام الأمريكيين السود لم يتم التخطيط لها مسبقاً فحسب، بل كانت تحظى بدعم كامل من الشرطة المحلية.

وفي كثير من الأحيان، كانت الشرطة تشارك الغوغاء البيض في مهاجمة السود رجالاً ونساء، وهناك آخرون من الشرطة كانوا متواطئين يعملون على حماية مصالح الجناة البيض لضمان ألا يواجهوا عواقب أعمالهم العنيفة، ونتيجة لذلك تم إعدام الآلاف من السود بجميع أنحاء البلاد في محاكمات صورية.

ولقد نددت «ويلز بارنيت» وآخرون بهذا العنف الذي تمارسه الشرطة، ورغم ذلك استمر العنف؛ فخلال الصيف الأحمر لعام 1919م، اندلع العنف والانتفاضات العرقية المكثفة في أكثر من 12 مدينة بجميع أنحاء أمريكا؛ بسبب حادثة قتل عنصرية بشعة في شيكاغو، قُتل فيها «يوجين ويليامز»، وهو مراهق أمريكي من أصل أفريقي، في 27 يوليو 1919م، عندما تجرأ على السباحة في قسم «البيض فقط» في بحيرة ميتشجان!

وأثار موت «ويليامز» الوحشي بسبب تحدي ممارسات الفصل العنصري غير الرسمية على شواطئ شيكاغو، ورفض الشرطة اعتقال أي من قتلة «ويليامز» في مكان الحادث.. أثار أسبوعاً من الانتفاضات العنيفة في المدينة، وعندما انتهت «أعمال الشغب العرقية» في أغسطس 1919م، كان 15 من البيض و23 من السود قد قتلوا، وأصيب أكثر من 500 شخص، وفقدت آلاف العائلات السوداء منازلها.

وكلما اكتسبت حركة الحقوق المدنية زخماً جديداً؛ زاد استهداف النشطاء من قبل الشرطة المحلية التي تعمل جنباً إلى جنب مع المدنيين البيض لمنع السود من الحصول على الحقوق المدنية والسياسية، وقد لاحظ «لانجستون هيوز» أن الزنجي ليس له صوت، وأن الشرطة تعامله بوحشية، وجل المواطنين يعتقدون أن مثل هذه الديمقراطية الطبقية يجب إصلاحها.

جذور عنصرية

كشفت صور الشرطة التي تهاجم النشطاء السود خلال حملة برمنجهام عام 1963م، ومسيرات «سيلما» إلى «مونتجمري» عام 1965م، الجذور العنصرية للشرطة الأمريكية، وكيف استهدفت هذه الممارسات الرجال والنساء والأطفال، وكذلك فعلت التطورات المحلية في مينيابوليس خلال الستينيات.

ومثلما حدث في الانتفاضات الأخيرة رداً على مقتل «فلويد»، اشتبك السكان السود في المدينة مع الشرطة المحلية في صيف عام 1967م، وحسب روايات عديدة، اندلعت انتفاضات -أسفرت عن تدمير منازل وشركات- بسبب التوترات بين السكان المحليين وضباط والشرطة المقيمين في تلك المناطق.

وقد أدى تهديد قوات الشرطة المستمر لحياة الأمريكيين السود –بدلاً من حمايتهم- إلى قيام زعيم الحقوق المدنية «مارتن لوثر كنج» الابن بحملة لمواجهة هذه القضية خلال خطابه الشهير «لديَّ حلم»، في مارس 1963م بواشنطن، الذي قال فيه: «هناك من يسأل كل من يؤيد الحقوق المدنية: متى ستشعر بالرضا؟ لا يمكن أن نكون راضين أبداً ما دام الزنجي ضحية لأهوال ووحشية الشرطة التي لا توصف».

وبحلول الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كان من الواضح أن حلم «كنج» بأمة بدون بطش ووحشية من قبل الشرطة لم يتحقق؛ فمن بين ضحايا تجاوزات الشرطة البارزة في مدينة نيويورك فقط: «مايكل ستيوارت» (1983م)، «إليانور بومبورز» (1984م)، «مايكل جريفيث» (1986م)، «إدموند بيري» (1985م)، «إيفون سمالوود» (1987م)، «أبنر لويما» (1997م)، «أمادو ديالو» (1999م)، بالإضافة إلى ضرب الشرطة العنيف لـ «رودني كنج» في لوس أنجلوس عام 1991م، وهذا يدل على ارتباط جذور وحشية الشرطة الأمريكية بعنصرية هيكلية مؤسساتية، وغالباً ما يتم القبض على السود وإطلاق النار عليهم من قبل رجال الشرطة بشكل قاتل أكثر من نظرائهم من البيض، ونادراً ما يتم اتهام ضباط الشرطة بقتل السود غير المسلحين.

كل هذه الحقائق تشير إلى أنه على الرغم من المكاسب السياسية لحركة الحقوق المدنية، لا يزال السود يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية في الولايات المتحدة؛ فالأمريكيون السود اليوم يموتون على أيدي الشرطة بمعدل يكاد يكون معادلاً لعدد عمليات القتل الجماعي الموثقة قبل قرن من الزمان.

وكما كشف تقرير صدر عام 2019م، فإن عنف الشرطة هو الآن أحد الأسباب الرئيسة لوفاة السود في الولايات المتحدة، وكما يوضح تقرير «اذكر اسمها» للمنتدى السياسي الأمريكي الأفريقي، فإن النساء والفتيات السود معرضات أيضاً لعنف الشرطة ووحشيتها.

وقد أخرجت الانتفاضات الأخيرة في مينيابوليس إلى السطح استمرار عنف الشرطة في مجتمعات السود، والحاجة الملحة إلى سياسات تتبناها الولايات وسياسات فيدرالية تحمي المواطنين السود، وتضمن مقاضاة ومعاقبة ضباط الشرطة جنائياً، وكما تقول الصحفية الاستقصائية «بيرنت» عام 1909: «لنتولَّ العمل معاً لتطبيق القانون، وجعله هو الأعلى والأكثر فعالية على كل شبر من الأراضي الأمريكية؛ درعاً للأبرياء، وعقاباً رادعاً ومؤكداً وسريعاً للمذنبين».

____________________________________

(*) أستاذة مشاركة في التاريخ بجامعة بيتسبرج، ومؤلفة كتاب

«أحرقوا العالم: نضال الأمريكيات السود من أجل الحرية» الحائز على عدة جوائز

المصدر: «Washington post”.

Exit mobile version