ماليزيا.. تنوُّع إجباري ونار تحت الرماد!

 

الشعب يتكون من 3 خلفيات عرقية تمثل 90% من تكوينه الديمجرافي يمثل الملايو 62% منهم

الصينيون والهنود بماليزيا لا يمانعون من قبول مظاهر الحياة للمواطن الأصلي بثقافته وهويته المختلفة

الدستور نص على أن تكون السيادة للملايو المسلمين مع إعطاء الصينيين والهنود حقوق المواطنة الكاملة

 

 

حين يتاح لك التعرف على المجتمع الماليزي معرفة ظاهرية دون الخوض في التفاصيل أو محاولة التعمق في الأصول والخلفيات التاريخية، سيكون من الصعب أن تصدق أن مجتمعاً بهذا السلم وهذا التنوع الشديد، وهذا القدر من التعايش يمكن أن ينطوي على أي نوع من العنصرية! فالابتسامة الصافية لا تغادر وجوه القوم مرحبة بكل غريب، أيضاً سلوكهم الراقي مع كل وافد، فلا غش ولا استغلال لحاجته أو جهله، لكنك حين تعيش بينهم طويلاً، وتتداخل مع ثقافتهم، وتتعرف على مكونات الشعب وسلوكياتهم الخاصة، تعرف أن النظرة السطحية الأولى ليست صادقة تماماً في التعبير عن واقع الحال.

حسب آخر إحصاء رسمي معلن عام 2018م، يسكن في ماليزيا 32.4 مليون نسمة، ويتكون الشعب في عمومه من 3 خلفيات عرقية كبيرة تمثل 90% من تكوينه الديمجرافي، الأغلبية من عرق الملايو، وهم سكان البلاد الأصليون، ويمثلون 62% من السكان، والعرق الصيني ويمثل 20.6%، والعرق الهندي بما نسبته 6.2%، ويرجع 0.9% إلى أصول عربية أو غربية، بينما يعيش 10.3% على الأرض الماليزية دون حقوق سياسية؛ نظراً لأنهم غير مواطنين وإن كان بعضهم قد تجاوزت إقامته عشرات السنين، بل إن بعضهم ولد في ماليزيا ولا يعرف له موطناً آخر.

ومن الناحية الأيديولوجية، فالصورة لا تختلف كثيراً؛ حيث إن 61.3% مسلمون، و19.8% بوذيون، و9.2% مسيحيون، والهندوس 6.3%، وباقي النسبة يعود لديانات صينية تقليدية، وغير مصنفين تحت ديانة محددة.

نظرة تاريخية

جاء الاحتلال البريطاني إلى ماليزيا عام 1786م وهي مقسمة إلى ولايات مستقلة يحكم كل ولاية منها سلطان ذو صلاحيات مطلقة، لكن الشعب كله كان من نسيج واحد، فالجميع ذوو أصول ملايوية، وقد كان للموقع الإستراتيجي المهم لهذه الجزر على طريق التجارة أثر كبير في أن تكون هذه المنطقة محط أنظار المحتلين على مدار التاريخ، فقد عانت ماليزيا من الاحتلال البرتغالي عام 1511م، ثم الهولندي عام 1641م، ثم البريطاني عام 1786م، وأخيراً الغزو الياباني عام 1941م، والذي لم يكتب له النجاح، ثم نالت ماليزيا الاستقلال عام 1957م، وتأسس الاتحاد بين الولايات الماليزية عام 1963م.

ونظراً لأن العالم القديم لم يكن قد تعرف على مفهوم الدولة بمعناه المعاصر، ولم تكن قد ظهرت إلى الوجود تلك الحدود السياسية الدقيقة، فقد كانت الممرات التجارية بطبيعتها مكاناً ملائماً لالتقاء الشعوب والثقافات من كل الأمم، ولم تكن ماليزيا بعيدة عن هذه القاعدة.

حينما جاء الاحتلال الإنجليزي طامعاً في معادن ومزارع شبه جزيرة الملايو احتاج إلى الأيدي العاملة، ولما لم يسعفه أبناء البلاد الأصليون للعمل في مناجم القصدير، ومزارع المطاط، نظراً لطبيعة العمل الشاقة، وطبيعة السكان التي تميل إلى حب الدعة والراحة، لجأ إلى استقدام الأيدي العاملة من مستعمراته في الهند، ومن الصين ذات الكثافة السكانية العالية، والقريبة نسبياً من شبه الجزيرة، لكن المشكلة الحقيقية ظهرت حينما قررت بريطانيا الجلاء عن شبه الجزيرة، فقد اشترطت بقاء العمال الذين استقدمتهم كمواطنين في البلاد قبل الخروج منها، ولعلها وجدت فيهم فرصة لفرض ولاء البلاد لها حتى بعد رحيلها عنها، نظراً لأن ولاء هذه العمالة أساساً لمن استقدمهم وليس للبلاد التي عاشوا فيها، ولم يمانع الماليزيون في بقائهم نظراً لأن معظمهم من العمالة الماهرة، التي لا شك تحتاجها الدولة الوليدة الراغبة في التخلص من آثار الاحتلال.

نصوص تمييز

إلا أن الماليزيين عند وضع الدستور عام 1957م بُعَيْد الاستقلال، حرص الآباء الأوائل على حفظ حقوق الشعب الأصلي والتمييز بينه وبين الوافدين الجدد في الحقوق، فقد نص الدستور على أن تكون السيادة للملايو المسلمين من خلال الملك والسلاطين، مع إعطاء الصينيين والهنود الذين جلبهم الاستعمار حقوق المواطنة الكاملة، وينص الدستور على أن الملك يمثل وحدة البلاد، والإسلام دينها الرسمي، أيضاً عرَّف الدستور «الشخص الملايو» بأنه المسلم الذي يتكلم لغة الملايو ويمارس عاداتهم، كما يمنع الدستور الماليزي غير الملايو من نشر دينهم بين المسلمين، ويسمح للمسلمين بنشر الدين الإسلامي وسط الديانات الأخرى.

يُنظَر الآن إلى هذه النصوص في العقد الاجتماعي على أنها «نصوص تمييز» تتنافى مع الأعراف الدولية، والمواثيق العالمية العصرية، وتشكل ذريعة للمجتمع الدولي للضغط على الدولة الماليزية حكومة وشعباً كلما لزم الأمر، ولا يتوقف المواطنون من أصول هندية وصينية عن إثارة هذه القضية بين الحين والآخر، أحياناً بالطرق السلمية والسياسية، وأحياناً بالصدام العنيف، كما حدث في الاشتباكات الأهلية العنيفة عام 1969م.

ولكنك حين تتعمق في مراقبة مظاهر الحياة الاجتماعية الماليزية، فإنك تصاب بالدهشة والحيرة! وترد على ذهنك المفارقة الشهيرة أيهما أولاً؛ البيضة أم الدجاجة؟! فلا تكاد تتوقف عن السؤال: هل تلك النصوص والممارسات التمييزية بين الطوائف الثلاث هي التي حوَّلت المجتمع إلى ثلاثة جيتوهات(1)، أم أن إصرار هذه الطوائف الوافدة على البلاد على عدم الذوبان في المجتمع الجديد هو الذي يدعو السكان الأصليين للتمسك بهذا النوع من التمييز خوفاً من ضياع هويتهم، بل وأرضهم؟

63 عاماً مرت على صياغة ذلك العقد الاجتماعي، ولكنك إلى الآن تستطيع التمييز بكل سهولة بين ثلاثة مكونات، لكل منها مناطقه السكنية، وملامحه، ومدارسه، وثقافته، وطعامه، ولغته، وملابسه، وديانته، فلا تستطيع إلقاء اللوم على الساكن المحلي الحريص على هويته وحمايتها من الذوبان في ثقافة الوافد الجديد، ما دام الوافد الجديد لا يزال يعتبر نفسه تابعاً لأصله الذي انحدر منه، ولعرقه الذي ينتمي إليه، وأيضاً تجد نفسك مجبراً على التعاطف مع العرقين الآخرين اللذين ولد معظم الجيل الحالي منهم على هذه الأرض ولا يعرف له وطناً غيرها، ثم هو لا يزال مواطناً من الدرجة الثانية مهما بلغت درجته ورتبته العلمية أو المادية.

غير أن هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام والدراسة، هناك فئة غير قليلة من العرقين الصيني والهندي قد دخلت في الإسلام طوعاً عبر جهود منظمات المجتمع المدني النشطة في هذه المجال(2)، وهنا تختفى كافة العوائق من الطرفين للذوبان والقبول، فلا يمانع الهندي والصيني من قبول كافة مظاهر الحياة للمواطن الأصلي بثقافته وهويته المختلفة، ولا يجد المواطن الأصلي أي غضاضة في قبول اختلاف الآخر، فيتم التزاوج بين الطرفين، ويولد الجيل التالي خالياً من أي عصبية للأصل أو الهوية المختلفة.

ولعل هذا يمثل واجباً على المسلمين في ماليزيا، هو واجب الدعوة والهداية، قبل أن يمثل حلاً ومخرجاً لمشكلة التركيبة السكانية المعقدة، ولعل الزمن يكون العامل الحاسم في علاج تلك الإشكالية، وإلى هذا الحين تمثل العدالة الاجتماعية ضمانة التعايش الآمن والمشترك.

تدرك الأطراف كافة أن طبقة التسامح والتعايش الطافية على سطح العلاقة بين مكونات الوطن تخفي تحتها حتماً كثيراً من الاختلاف والتربص، وأن ناراً تحت الرماد ما تلبث أن تجد مخرجاً فتضر بالأطراف كافة، إلا أن رؤية هذه الأطراف متباعدة جداً –إلى الآن- في التوصل إلى خارطة طريق للحل، لكن الضغوط المحلية والإقليمية سوف تدفعهم دفعاً إلى التقارب والتلاقي في منتصف الطريق.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهامشان:

(1) الجيتو أو المَعْزِل: تشير إلى منطقة يعيش فيها، طوعاً أو كرهاً، مجموعة من السكان تعتبرهم الأغلبية ذوي خلفية ثقافية أو دينية أو عرقية مختلفة، وأول من عرف بها اليهود في أوروبا.

(2) اجتهدتُ للوصول إلى إحصائية عامة تخص ماليزيا كلها، لكن لم أتوصل إلا إلى إحصائيات خاصة بكل مؤسسة على حدة، وهي لا تعكس حجم التغيير على مستوى الدولة.

Exit mobile version