ماليزيا و”التطبيع”.. عين على السياسة وأخرى على الاقتصاد

كانت زيارة «موشيه شاريت»، وزير خارجية الكيان الصهيوني عام 1956م، إلى كوالالمبور أول علاقة رسمية بين الكيان وماليزيا قبل استقلالها عن التاج البريطاني بعام واحد، عرض خلالها وزير الخارجية تبادلاً دبلوماسياً بينهما، وقابله تنكو عبدالرحمن، أول رئيس وزراء بعد الاستقلال والأب الروحي لاتحاد الملايو، بالموافقة دون تردد، حسب رواية «موشيه»، إلا أن عبدالرحمن عاد وتنكر لهذه الوعود لاحقاً، متذرعاً بالرفض الشعبي، وتحت ضغط من دول إسلامية في الشرق الأوسط، على رأسها مصر.

لكن الكيان الصهيوني لم يفقد الأمل، فقد استغل قرار شركته الوحيدة في ماليزيا «إنترآسيا» بنقل عملياتها إلى سنغافورة عام 1964م لأغراض تجارية، وأرسل مبعوثه التجاري «موشي ييغار» بغرض معلن هو الحفاظ على الشركة ومعالجة مشكلاتها، وآخر خفي وهو التمهيد لإقامة علاقات دبلوماسية مع ماليزيا، لكن في عام 1966م اضطرت ماليزيا إلى طرده تحت ضغوط محلية ودولية من دول العالم الإسلامي، ثم ظلت العلاقات تراوح مكانها، قبول حذر على المستوى السياسي ورفض شعبي وإقليمي صريح، إلى أن وصل د. مهاتير محمد إلى سدة الحكم عام 1981م. 

مهاتير والرفض التام

يعتبر د. مهاتير محمد، الذي قاد البلاد 23 عاماً (1981 – 2003م)، عرَّاب رفض «التطبيع» مع الكيان الصهيوني، وكثيراً ما هاجم سياسة الاحتلال وتوسعاته، وأصر على رفض التبادل الدبلوماسي بينهما، وكثيراً ما خرجت تصريحاته الهجومية على الكيان عن نهجه الهادئ والمعروف به في الأوساط الدولية.

وقبل صعود تحالف الأمل تحت قيادته إلى السلطة منتصف عام 2018م، كانت هناك خطوات خجولة نحو التمهيد لعلاقات بين البلدين يقودها تحالف «PERSATU” الحاكم بقيادة نجيب عبدالرزاق، قيل: إنها جاءت تحت ضغوط من جهات تدعم عملية التطبيع وتروج لها بقوة في المجتمع الدولي؛ فقد سمحت ماليزيا، ولأول مرة، لوفد “إسرائيلي” رفيع المستوى بحضور مؤتمر نظمته الأمم المتحدة، في فبراير 2018م، بعد تاريخ حافل من المنع والمقاطعة؛ مما أثار عاصفة شعبية من الاستياء واسع النطاق، إلى الحد الذي دعا مراقبين للاعتقاد بأن خطوات التقارب تلك مع الكيان قد تكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وأفقدت التحالف سيطرة على مقاليد الحكم التي دامت ما يزيد على 30 عاماً، خاصة أنها كانت قرب الانتخابات، فعاقبت الجماهير التحالف بالتصويت ضده في انتخابات منتصف عام 2018م.

وفي يناير 2019م، رفضت ماليزيا مشاركة الفريق “الإسرائيلي” في مسابقة السباحة لذوي الاحتياجات الخاصة المؤهلة لأولمبياد طوكيو 2020م، وهددت اللجنة الأولمبية بسحب تنظيم المسابقة الدولية من ماليزيا إذا لم تتراجع عن قرارها، ثم نفذت تهديدها لاحقاً ونقلت البطولة إلى العاصمة البريطانية لندن، وفي بيان اللجنة الأولمبية، أكدت أنها كانت قد أخذت تعهدات من الحكومة الماليزية أنها لن تمنع أي مشارك من أي دولة كانت، لكن فوز تحالف الأمل وصعود مهاتير محمد غيَّر المعادلة السياسية.

أثارت تلك الحادثة عاصفة من هجوم الكيان الصهيوني على مهاتير حين وصفت القرار بأنه ناتج عن معاداته “المسعورة للسامية”، حسب زعمهم، لكنه رد لهم الصاع صاعين حين وصف الكيان بـ “الدولة المجرمة”، وقال: “إنهم لصوص وليسوا بشراً، مضيفاً: “إن الأشخاص غير المرغوب بهم سيبقون خارج حدودنا، من أجل ذلك صنعت الحدود”! ثم قال: “إذا كان الرياضيون مصرين على المشاركة، فعلى اللجنة الأولمبية أن تجد لهم مكاناً آخر غير بلادي”.

ثم عاد في وقت لاحق بعد استقالته من رئاسة الوزراء للهجوم من جديد على الكيان واصفاً ممارساته بـ “الفصل العنصري والإبادة الجماعية التي ارتكبت ضد الإنسانية من قبل دولة إرهابية تسمى إسرائيل”، وقال: “إن هذه الممارسات لن تنتهي إلا بانتهاء الاحتلال”، ثم هاجم “صفقة القرن”، واصفاً إياها بأنها تقدم القدس التاريخية على طبق من ذهب للصهاينة، متجاهلة مشاعر الملايين من المسلمين والمسيحيين، مؤكداً أنها لن تجلب سوى مزيد من الصراع في المنطقة.

لم تكن تلك السابقة الأولى، ففي عام 2015م اضطر “إسرائيليان” من راكبي القوارب الشراعية إلى الانسحاب من منافسة في منتجع جزيرة لَنْكَاوِيْ بعدما رفضت السلطات منحهما تأشيرات الدخول، وفي العام التالي قررت ماليزيا عدم استضافة مؤتمر “فيفا” عام 2017م بسبب مشاركة وفد “إسرائيلي”.

على الرغم من الرفض الشعبي الماليزي الواسع للكيان الصهيوني، والتعاطف الواضح مع القضية الفلسطينية، ودعمها المادي والمعنوي على الأقل في صفوف الأغلبية المسلمة في البلاد؛ فإن الأمر لا يبدو بالدرجة ذاتها على مستوى السياسيين ورجال الاقتصاد، إذا ما استثنينا ذوي التوجهات الإسلامية منهم.

عين على الاقتصاد 

على صعيد التبادل التجاري، تظهر صورة مغايرة تماماً تعكس حقيقة العلاقة بين ماليزيا والكيان، كما تحكيها الأرقام بعيداً عن شعارات السياسة، وتصريحات الإعلام، على الصعيد الرسمي؛ فإن التجارة بينهما محظورة منذ عام 1974م بقرار ماليزي، إلا أن رؤوس الأموال الماليزية وجدت طريقها إلى قلب الاحتلال الصهيوني عبر شركات وسيطة على الحدود في سنغافورة وتايلاند، وحسب التقارير الصادرة عن دائرة الإحصاء في الكيان، فقد تطور التبادل التجاري بينهما من 130 مليون دولار فقط عام 1999م ليصل إلى أكثر من 1.5 مليار دولار عام 2013م، الجزء الأكبر من هذا الميزان التجاري لصالح الكيان الصهيوني، إذ تمثل الواردات إلى ماليزيا أكثر من 90% منه في معظم السنوات.

هذا التنامي الملحوظ في التبادل التجاري بين ماليزيا والكيان يمثل مؤشراً خطيراً لبدء مرحلة جديدة من التقارب على المستوى السياسي، وعلى كافة الجهات المهتمة بمقاومة التطبيع، خاصة القوى والمكونات الوطنية الفلسطينية، مهمة النهوض والتحرك ضد هذا التوجه بخطوات تعرف مواقع أقدامها، وأن تتبنى خطاباً لتوعية شعوب منطقة شرقي آسيا بخطورة هذه التطورات على القضية الفلسطينية والحق الإسلامي في الأرض المحتلة، قبل أن يتسع الخرق على الراقع، ويصل هذا الاختراق الاقتصادي إلى النخبة السياسية مؤثراً على مواقفها ودعمها للحق الفلسطيني.

على المستوى الشعبي، تشهد الساحات العامة، والمساجد، والجامعات، أنشطة مناهضة للعدوان على أرض وشعب فلسطين، ولم تمر حادثة من حوادث العدوان على غزة دون ردود فعل قوية في الشارع الماليزي، ومن المألوف على مدار العام في المتاجر الكبرى والحفلات الفنية أن تجد صندوقاً لجمع التبرعات لدعم صمود الشعب الفلسطيني؛ مما يؤكد أن القضية العادلة لحقوق الشعب في أرضه ومقدساته حية في قلوب الجماهير أكثر منها في نظر السياسيين ورجال المال.

ربما يمثل التباعدُ المكانيُّ والضعف النسبي لتأثير ماليزيا على المستوى الدولي دافعاً للكيان بأن يجعل ماليزيا في مرتبة تالية على قائمة مهامه، لكن المؤكد أن محاولاته لزيادة التبادل التجاري وصولاً إلى التطبيع الكامل لن تتوقف، فإلى متى سينجح الضغط الشعبي في منع هذا القطار من الوصول إلى محطته الأخيرة؟!

ستتكفل التغيرات المحلية والإقليمية والدولية، خاصة في عالم ما بعد «كورونا»، بالإجابة عن هذا التساؤل.

Exit mobile version