حرث العقل العربي لصالح الكيان الصهيوني

الحقيقة أن الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني لم تأتِ دفعة واحدة، ولا حتى بصورة مفاجئة، وإنما كانت نتيجة لخطط ممنهجة ربما لا نستطيع الحصول على وثائقها، إلا أنه يمكن بكل بساطة استقراء نتائجها وتطوراتها ومساراتها.2020-06-11_12h23_40.jpg

وهذا ما سوف نشير إلى جانب منه في هذه المساحة الفكرية؛ فهذه الخطط الممنهجة كان غرضها الأساس والإستراتيجي (البعيد) -الذي وصلنا إلى جانب عظيم منه وخطير كذلك- هو تهيئة العقل العربي –باعتبار الاختراق العقلي يعقبه اختراق وجداني وقيمي كذلك- إلى قبول الكيان الصهيوني كعنصر طبيعي في الجسد العربي والإسلامي.

باكورة الاتفاقات السياسية وتطورها:

من المسارات الباكرة في تطبيع العقل العربي كان مسار الاتفاقات السياسية، التي هدفت كما في إعلانها إلى إلغاء فكرة «الحرب» من الذهن العربي، وإحلال مفهوم «السلام» القائم على الاعتراف باغتصاب الحقوق العربية والفلسطينية، وكانت باكورة هذه الاتفاقات معاهدة السلام المصرية الصهيونية، في 26 مارس 1979م، وتعتبر هذه أول مداخل التطبيع السياسي مع الكيان الصهيوني، التي أعلن فيها نهاية الحرب بين مصر و«إسرائيل» بموجب هذه الاتفاقية، وفتحت هذه المعاهدة باباً واسعاً (بحجم مصر) للدخول منه إلى العقل العربي وخارطته الجغرافية والثقافية.

ظل العرب (أنظمة وشعوباً) في حالة رفض تام لهذه الاتفاقية، وظلوا رافضين لعقد أي اتفاقات مع الكيان الصهيوني، بل والقطيعة العربية المصرية، حتى عام 1993م (أي بعد ما يقرب من 17 عاماً)، ثم انتقلت الاتفاقات السياسية نقلة نوعية خطيرة، تمثلت في اتفاقية «أوسلو»، وهو أول اتفاق وقعه الفلسطينيون بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات و«الإسرائيليين» بقيادة رئيس وزرائهم «إسحاق رابين»، في سبتمبر 1993م، بواشنطن، ثم دخل الطرفان (الفلسطيني والصهيوني) في عدة اتفاقات، منها: اتفاق غزة- أريحا عام 1994م، الذي نتج عنه إجلاء هذا الكيان من غزة بعد شعوره بخطورة المقاومة على وجوده، ثم كان اتفاق طابا عام 1995م (امتداداً لاتفاق أوسلو)، الذي قسم مناطق للسلطة الفلسطينية الجديدة في مناطق الحكم الذاتي (المحدود)، وكان وجود السلطة الفلسطينية الناتجة عن اتفاق أوسلو.

ثم كانت اتفاقية نوعية أخرى شبيهة باتفاقية «كامب ديفيد» المصرية، ويمكن وصفها عربياً بكامب ديفيد الثانية، وهي اتفاقية «وادي عربة» عام 1994م بين الأردن والكيان الصهيوني، وهي اتفاقية ذات جوانب متعددة سياسية ودبلوماسية واقتصادية وجغرافية، وكان أخطر بنودها ما تتضمن تطبيعاً كاملاً، يشمل على سبيل المثال: «فتح سفارة إسرائيلية وأردنية في البلدين، إعطاء تأشيرات زيارة للسياح، فتح خطوط جوية، عدم استخدام دعاية عدائية في حق الدولة الأخرى».

التربية من أجل السلام لصالح الكيان الصهيوني:

من مسارات حرث العقل العربي لصالح الصهيونية المبادرات التربوية والتعليمية الصادرة عن الأمم المتحدة واليونسكو، ومن هذه المبادرات مبادرة «التربية من أجل السلام» التي هدفت في نسختها الوثائقية الدولية إلى تغيير المفاهيم والقيم التي تؤسس للعنف والصراع والنزاع من خلال نظام التربية والتعلم، والإسهام في بناء مفاهيم وقيم مقابلة لهذه المفاهيم والقيم المؤسسة لحالات العنف والصراع والنزاع، وهذا ما جاء في الميثاق التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم من خلال النص التالي الذي يلخص المبنى الأساس لفلسفة هذه المبادرة، وهو: «لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام»(1).

وفي ضوء ذلك، يعد مجال تحليل ومراجعة الكتب المدرسية واحداً من أهم مجالات عمل مبادرة «التربية من أجل السلام» في ميدان التعليم، وتقوم تلك الطريقة على إعادة تصميم تلك الكتب والمقررات لتكون ضمن أدوات تعليمية لتحقيق التفاهم الدولي؛ وذلك لأن الكتب المدرسية «تنقل فهماً عالمياً لتاريخ مجتمع ما، ولقواعده وعاداته المتعلقة بالعيش مع الآخرين»(2).

ويركز هذا المجال على الكتب المدرسية في مجالات التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية؛ لأن هذه الكتب تشكل تصورات النظر إلى الذات وإلى الآخر، وتحدد قواعد التعامل الدولي بين الثقافات وبين المجتمعات المتعددة والمختلفة جغرافياً وتاريخياً وثقافياً.

من أهم النتائج التي خَلُصَ إليها مشروع «مراجعة الكتب المدرسية» -وهو المشروع الأبرز في المبادرة الأوروبية/ العربية- تزايد أوجه التقارب في مضامين الكتب المدرسية، ومع ذلك ما زالت الأفكار النمطية وطبيعتها الازدواجية لا سيما ما يتعلق بفترات الاستعمار والتاريخ الحديث والمعاصر.

إلا أنه يمكن التوقف عند النتيجة المتعلقة بمكانة «الدين»؛ حيث أظهرت نتائج التقرير الخاص بهذه المراجعة للكتب الدراسية في أوروبا والعالم العربي، أن «الدين يظهر في المجتمعات العربية الإسلامية وكأنه عقبة أمام تطبيق الديمقراطية، واعتماد المساواة بين الرجل والمرأة، واحترام حقوق الأقليات الدينية، وحرية الإبداع الفني أو الابتكار العلمي»، حتى يصل التقرير إلى خلاصة مفادها –بشأن نتائج الفكرة الدينية في المجتمعات العربية- «.. فتبدو المجتمعات العربية الإسلامية ضمناً في صورة مجتمعات متجانسة تتسم بالجمود ولا تشجع حدوث تطورات مجتمعية»(3).

والواقع أن مبادرة «التعليم من أجل السلام» تتجه في العالم العربي نحو تأكيد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتعمل في هذا الصدد على إزاحة فكرة «المقاومة» التي تصفها بـ «العنف»، ومن ثم يخلو قاموسها التربوي من فكرة استرداد الحقوق العربية التي اغتصبها الكيان الصهيوني، وتطرح بدلاً منها قيم: التفاوض، والصلح، والوساطة.. وهي كلها تزاحم بما لا شك فيه فكرة المقاومة(4).

وتعتبر هذه المبادرة –في مسار التطبيع الذي يعارضه العقل الجمعي العربي- أنه «من الضروري تحقيق التفاهم والاحترام المتبادل بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين، وأن هناك حاجة للتعليم من أجل الاحترام المتبادل بين الثقافات، والتفاهم والمصالحة بين اليهود والفلسطينيين»(5).

يتناقض هذا الطرح الذي تقدمه مبادرة التربية من أجل السلام مع طرحها القيمي الذي يؤكد دائماً قيم العدل والإنصاف والحقوق باعتبارها قيماً أساسية لتحقيق تربية السلام، والعدل والإنصاف يقتضيان رد الحقوق، وليس التصالح أو التفاوض عليها، فهذا مما يخالف القوانين الدولية والأعراف الإنسانية والتجارب التاريخية للبشرية.

إزاحة مفهوم المقاومة.. والإرهاب مرادفاً:

ظلت المحاولات الحثيثة من أجل تجريف العقل العربي من فكرة المقاومة وما تحمله من قيم الحرية والاستقلال، وطرد المستعمر الغاصب لفلسطين المحتلة، بينما ظلت المقاومة في الواقع العملي ترسخ ذلك المفهوم، رغم إمكاناتها الأقل من حيث العدد؛ وهو ما جعل فكرة المقاومة مستمرة في نفوس الأجيال العربية، وهنا لجأ النظام العالمي إلى محاولة إزاحة فكرة المقاومة عن طريق طرح مفهوم «الإرهاب» مرادفاً لها، وأصبحت عمليات المقاومة ضد المستعمر الصهيوني توصف من قبله بالإرهابية، ليس ذلك فقط، بل تعاضد كثير من أنظمة الحكم العربية في التأطير لهذا الاستبدال، وتلك الإزاحة، وأعلنوا في أكبر المنابر الدولية أحقية الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، وتبنت أجهزة أنظمة إعلامية عربية عديدة وصف حركات المقاومة للكيان الصهيوني بالإرهاب، ما حدا بالمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج إلى التنديد في بيانات متعددة بتلك الممارسات، ووصفها بأنها «تتضمن إساءة بالغة إلى مقاومة الشعب الفلسطيني والنيل منها حينما تصف مقاومته بالإرهاب»(6).

وإرضاء للكيان الصهيوني، أسس عدد من الأنظمة السياسية العربية مراكز كبرى ادعت أنها مقاومة للإرهاب والتطرف، وهي تستهدف -بما لا يدع مجالاً للشك- أفكار المقاومة، مقاومة المحتل الصهيوني، واقعاً، وفكرة في العقل العربي.

التسلل الاقتصادي:

أحد أهم المداخل للتطبيع الصهيوني مع الأنظمة العربية هو المدخل الاقتصادي، الذي يمارس فيه الكيان الصهيوني طريقة التسلل، أو بمعنى أدق كانت تلك البداية؛ لأن المستهلك العربي في عمومه يرفض الاسم «الإسرائيلي» جملة وتفصيلاً في أي شكل من أشكال التواصل، لذلك لجأ الكيان الصهيوني إما إلى اتفاقات سرية مع بعض الأنظمة العربية، أو بدعوة الأنظمة العربية إلى فتح مكاتب تجارية فيه بلادها، أو جاءت متسللة عبر الوسيط الأمريكي.

ففي عام 1992م افتتحت تونس ممثلية تجارية لها في القدس المحتلة، وفي عام 1995م استوردت منتجات «إسرائيلية» بنحو 46 مليون دولار، ولدولة الاحتلال ممثلية تجارية في سلطنة عُمان، تصدر إليها منتجات المطاط، والبلاستيك، والمنتجات الورقية، والمعدات الميكانيكية، والمنتجات الكيماوية، كما يوجد في المغرب مكتب اتصال افتتح عام 1994م، فيما تأتي واردات الكيان الصهيوني إلى المغرب عبر جزيرتي سبتة ومليلية المحتلتين من قبل إسبانيا، بعد توقيع الاتحاد الأوروبي اتفاق التجارة الحرة مع «إسرائيل» عام 1995م، الذي يتضمن مادة خاصة بالجزيرتين.

كما يذكر أن الكيان الصهيوني وقع مع العراق اتفاقاً، في 21 يوليو 2003م، بترخيص عام للتجارة يسمح بإقامة أنواع العلاقات التجارية كافة مع العراق، وصرح «جون تيلور»، مساعد وزير المالية الأمريكي، لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، في يونيو 2003م، بقوله: «إن العراق مفتوح أمام الشركات «الإسرائيلية»، وأنا أدعوها للمشاركة في إعادة الإعمار»، ولعل ذلك يفسر التواجد «الإسرائيلي» أين يوجد عسكري أمريكي، وهذا يعني أيضاً حجم الشراكة بين «إسرائيل» وأمريكا في احتلال العراق(7).

وبالنسبة إلى الأردن ومصر، فكان شكل التواصل «الإسرائيلي» عبر اتفاقية «الكويز»، التي طرحتها الولايات المتحدة كمقدمة لدخول «إسرائيل» في مختلف الاتفاقات الاقتصادية التي تبرمها الولايات المتحدة مع الدول العربية، وتأخذ الصادرات «الإسرائيلية» للدول العربية ثلاثة أشكال؛ أولها المعدات الزراعية، مثل معدات الري ولقاحات التطعيم الحيوانية، والمعلومات التكنولوجية ومكوناتها، بالإضافة إلى البذور الزراعية المعالجة وراثياً.

مواجهة حركات التغيير (الثورات المضادة):

عندما وقعت أحداث «الربيع العربي» (وحقيقتها الهبات الداخلية على الأنظمة المستبدة التي تقيم كل هذه العلائق مع الكيان الصهيوني)، رفعت الجماهير العربية شعاراتها ضد الكيان الصهيوني، وتأييداً لتحرير فلسطين وحقها في الاستقلال الكامل، كما أرسلت الشعوب العربية رسائل متعددة إلى الكيان الصهيوني تفيد غضبها ورفضها التام لوجوده في العالم العربي، ووعياً بأن الحالة العربية المتردية لمجتمعاتنا العربية إنما في كثير منها يرجع إلى وجود هذا الكيان الصهيوني الذي ارتبطت به الأنظمة المستبدة الجاثمة على الشعوب العربية، ومن مظاهر هذا الرفض اقتحام السفارة «الإسرائيلية» في مصر والعبث بمحتوياتها في سبتمبر 2011م.

لذلك ساند الكيان الصهيوني الأنظمة العربية في ثوراتها المضادة للشعوب ولرغبتها في الحرية.

إن الأمل ما يزال منعقداً على «عقل التدافع» لكل محاولات الحرث والتهيئة للغرس الصهيوني، التي لم تنجح حتى الآن، في قطف أي ثمار على المستوى الشعبي.

 

_____________________________________________________

الهوامش:

(1) انظر: منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة: إعادة التفكير في التربية والتعليم نحو صالح مشترك عالمي.

(2) انظر: دليل اليونسكو للبحوث المتعلقة بالكتب المدرسية، 2016 منظمة الأمم المتحدة.

(3) المرجع السابق، ص 27.

(4) ومن الأنشطة التي قامت بها في هذا الصدد: لقاء ترقية مبادرة التعليم 2005 عمَّان/ الأردن، سيمنار التربويين العرب (بذور السلام)، واشنطن 2005، المؤتمر الدولي عن التربية المدنية عمَّان/ الأردن، مشروع تدريب المواطنة لبنان مارس 2004، برامج التربية المدنية العربية (تنفيذ مشروع المواطنة بين مصر، الأردن، والضفة الغربية 2004)، مشروع تدريب المواطنة- القاهرة 2004، وغيرها من البرامج التي استهدفت دول الجوار للكيان الصهيوني.

(5) سوى هين توه: «بناء السلام والتعليم من أجل السلام خبرات محلية وتأملات عالمية»، ترجمة أحمد عطية، مجلة مستقبليات، عدد (121)، مرجع سابق، ص 115.

(6) قدس برس 13/6/2017.

(7) انظر: https://www.marefa.org/ العلاقات التجارية الإسرائيلية العربية.

Exit mobile version