بائع المناديل

في الصباح الباكر، خرج مسرعًا، يحمل تلًا من المناديل، يسرع الخطوات رغم حرارة الشمس الحارقة، خطواته اللاهثة تنتهب الطريق انتهابًا، يتلوى بجسده النحيل؛ ليتفادى الصدام مع طوفان السيارات المتتابع، صوت نفسه يتصاعد، يغطي على هدير السيارات، وحشرجة صدره المعتل من كثرة النوم في الصقيع بأغطية بالية، ومن شراهة التدخين، رغم أنه لم يتجاوز الثانية عشرة، تعلو هذه الحشرجة على أصوات السيارات المتهالكة، وزئير منبهات الصوت التي لا تقدم ولا تؤخر في فتح الطريق.

وما هي إلا زفرات تخرجها الصدور التي ضاقت بالزحام والحر، وتبادل الاتهامات بالأنانية، بل وتبادل السباب بأقذع النعوت، كل هذا من أجل أن يدرك مكانه عند إشارة المرور، حيث يبيع المناديل، يصل إلى مكانه بصعوبة، تراوده نفسه أن يفتح علبة مناديل ليجفف عرقه الغزير المتصبب، وبعد صراع داخلي في نفسه يحسم أمره ويجفف عرقه بطرف قميصه الرث، والذي استحالت بعض أجزائه إلى اللون الأبيض، من شدة ملوحة العرق وغزارته، يأخذ نفسًا عميقًا، يشعر بالرحابة والتملك، كأنما حيزت له الدنيا، ينادي بصوت متهدج: مناديل يا بيه؟ يتجول بين السيارات المتأهبة للانطلاق بعد فتح الإشارة، تجذب انتباهه سيارة فارهة، سوداء اللون، يقودها رجل حاد الملامح يودع مرحلة الشباب، يدخن “سيجاراً”، يفتح عن يمينه جزءًا من النافذة، يطرد منه غبار سيجاره الفاخر، يسرع الفتى تجاه السيارة، ويقابله الرجل بإشارة بأصبعيه الخنصر والبنصر بيده التي تحمل السيجار: أن ابتعد، لكن الفتى يمد يده داخل السيارة قائلا: مناديل يا بيه، لكن “البيه” يركل يده بكل قوة وغيظ، تسقط عبوة المناديل أمام السيارة تُفتح الإشارة، يندفع صاحب السيارة ويمر فوقها، وبعدها طوفان من السيارات، حتى تساوت بالطريق، صرخ الفتى صرخة رعيبة كأن كل آهات الجوعى والمشردين والعرايا قد شاركته الصراخ، لكن اللوحة المعدنية لسيارة الرجل حُفرت في ذاكرته، وظلت تترد في أعماقه مع كل زفير وشهيق (ق ه ر 1954).

قام الفتى يجرجر قدميه كأن أجولة من الرمال قد تعلقت بهما، يتردد في ذهنه سؤال أليم: بم يبتاع الأرغفة وحبيبات الطعمية التي يتلهف عليها إخوته عندما يعود آخر النهار ليسدوا بها غول جوعهم؟ تمنى لو أنه يحمل معولا خارقًا؛ يجتث به كل ما يقابله من أشجار، ويهدم كل ما يراه من مبانٍ وحوانيت، ويقطع به كل الطرق، ويهشّم كل السيارات، مضت عليه ليلة طويلة ملؤها الجوع والخوف والرغبة العارمة في الانتقام.

أمضى الليل يفكر في سني عمره القليلة، وكم تحمل من أحداث تنوء بها كواهل الأطفال مثله! كان أبوه العامل البسيط قد مات منذ عامين بفشل كبدي، واضطر لترك دراسته بعد (سنة رابعة) ومن يومها تحولت حياته جحيمًا لا يُحتمل وشقاءً لا ينقطع، سيما وأن أمه أصابها مرض مزمن أقعدها طريحة الفراش تحتاج الرعاية والدواء.

في صباح اليوم التالي هرع يقطع طريقه ماشيًا إلى موضع الإشارة، وأرقام اللوحة المعدنية وحروفها تتراقص أمام عينيه كأنها غيلان متوحشة، وصل في موعد الأمس، صدره يضيق، وأنفاسه تتسارع، تحملق عيناه في كل السيارات المارة، يركز على اللوحات المعدنية، يدور بعينه كالمجنون عند توقف السيارات، يركز على السيارات السوداء، بيده حجر ليس بالضخم، ولكنه مدبب، يقبض عليه بحنق شديد.

الإشارة حمراء، يتوقف سيل السيارات، يجري يقذف سيارة الرجل بعزم تدفعه كل مرارات القهر والجوع والحرمان، تتحطم واجهة السيارة، يحاول الطفل فرارا، يجري إلى الاتجاه الآخر من الطريق، سيارة سوداء مسرعة في الطريق المفتوح تقذف الجسد النحيل عاليًا، يهبط شاهقًا شهقة واحدة أراحت ذلك الجسد المكدود من عذابات ناءت بها روحه، فأسلمها لبارئها الحكم العدل.

في اليوم التالي طفلٌ في المكان نفسه ينادي: مناديل يا بيه؟ عسكري المرور ينصحه ألا يلح على الزبائن، وبخاصة أصحاب السيارات السوداء، الطفل يقول له: لا عليك، لن أفعل مثل أخي.

Exit mobile version