الثلاثية الإنسانية!

يتحدث الماديون والعلمانيون كثيراً في قضية إنسانية الإنسان ونصرتهم للإنسانية! وحبهم المطلق للإنسانية المطلقة! وهم أبعد الناس عن الحقيقة، والشواهد على ذلك كثيرة تاريخاً ومعايشة، بل وصلت الحال بهم أن تتحدث إحداهن وهي اليوم بين يدي الله تعالى في لباس المرأة، وتدعي أنه من الإنسانية، أن تعود المرأة إلى ما قبل اكتشاف الحياء! فالحياء، حسب قولها، ما ظهر إلا بعد اكتشاف الملابس! وهي تحاول أن تعزز دعوتها بشكل أو بآخر إلى الانحلال والتفسخ!

حينما نتابع ونمعن النظر في أقوالهم وأفعالهم بدقة -العلمانيين والماديين-  كدول ومؤسسات، وأيضاً الأفراد؛ العالمية منهم والمحدودة المحلية والإقليمية، نجد أعمالهم دائماً خارج الإنسانية، وها هو العراق وليبيا حفتر اليوم وبورما، وما حدث سابقاً في أفريقيا الوسطى، ومالي واليمن وسورية حتى اليوم، هذه الدول تشهد على الفكر الإقصائي اللا إنساني الذي يهدف إلى استسلام الإنسان قسرياً، لقبوله ما يمليه عليه هذا المادي العلماني وإلا سيكون ويبقى في الوحل الأسوأ قسراً، وإن كانت ديمقراطياً إما العلمانية وإلا لا حرية ولا ديمقراطية!

حينما ننظر إلى الإنسان هذا المخلوق المميز ونتساءل: بماذا ميّزه الله تعالى عن باقي ما خلق من خلْق وخُلـق غير إنساني؟ نجد عناصر التميز متعددة التي يتميز بها الإنسان عن غيره أو الحيوان، ولكن هناك تميز يشمل ثلاثة أمور أو عناصر رئيسة تميزه بقوة عن إطار الحيوان، والغريب أن اثنتين من هذه الخصال والعناصر من الممكن أن يشارك الإنسان فيها الحيوان استثناءً أو بجزئية، ولكن هناك واحدة منها لا يمكن التنازل عنها.

نعم.. فبالتنازل عنها لا يمكن أن يكون الإنسان إنساناً بأي شكل من الأشكال.

الخصلة الأولى هي النطق، والنطق هذا من الممكن أن يفقده الإنسان لسبب عارض ما، فيكون هذا الإنسان بعينه غير قادر على النطق كما الحيوان إلا أن هذا لا يُخرجه من إنسانيته لا شك؛ وذلك لوجود العقل الذي يبتكر البدائل للتفاهم، وأيضاً الحيوان له نطق محدود في حدوده، أما الإنسان مطلق النطق باللا حدود، فهو مختزلة فيه كل اللغات التي نطق بها الإنسان، ومن الممكن تعلمها وينطق بها وباستطاعته أن ينقل معلومته لغيره، وهذا ما يميزه بشكل مطلق وكبير عن الحيوان وإن شارك الحيوان أحياناً واستثناءً أو شاركه الحيوان جزئياً.

نعم.. فالإنسان مختزلة فيه كل المعارف ودليل ذلك قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة: 31)، فلذلك الإنسان المخلوق الوحيد الذي لديه الاستعداد ليتعلم كل شيء، فكل شيء مختزل عنده في عقله وخلاياه، ولا يحتاج إلا إلى السبب ومن ثم الوسيلة لتبرزه.

الخصلة الثانية: العقل، وهذه أيضاً من الممكن أن يفقدها الإنسان استثناءً، إلا أنه يبقى إنساناً ينطق وإنسانيته باقية.

أيضاً الحيوان له عقليته وعقله المحدود والمحصور في حدود فطرته، وجنس حيوانيته التي خلقه وفطره الله تعالى عليها، فإن فقد الإنسان استثناءً هذا العقل فلا يخرج من إنسانيته، ولا يعني مشاركة الحيوان بشيء جزئي في معنى العقل حسب فطرته وقدراته، لا يعني أنه تساوى مع الإنسان، وفاقد العقل من البشر لا يعتبر عاماً بل استثناءً، والتعامل معه استثنائي ويبقى إنساناً رغم فقده أرقى ما فيه وهو العقل.

الخصلة الثالثة: “الإيمان بالغيب”، وهي الفيصل الذي لا نقاش فيه، ففي قبولها وعدم قبولها دليل تواجد العقل، ودليل ذلك (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، فإن قبل اختياراً بالقبول يكون إنساناً عاقلاً، وإن أنكر عقلاً بعدم القبول كان تحت عنوان البهيمة “كالحمار يحمل أسفاراً”، أو تحت عنوان ما هو أسوأ “بل هم أضل”، أو كما قال الله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) (الأعراف: 176).

نعم.. فلعدم قبوله الغيبيات يكون الإنسان ما زال في إطار البهيمية إن لم يكن “أضل”؛ وإن “تأَنْسنَ” وادعى الإنسانية.

حينما ننظر إلى كل الأيدولوجيات والفِكَر الإجرامية والفاسدة التي أصّلت قواعد نشر الفساد والشر، لا نجدها انطلقت إلا من خلال التخلي أصلاً عن “الإيمان بالغيب” حسداً أو حقداً وتعالياً باسم تقديس العقل! ومن ثم النتيجة: “كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث”، أو “كالأنعام بل هم أضل”، علماً أن الإنسان في حال فقدانه هذه الخصلة الاعتقادية الإنسانية يصيبه خلل كبير في عقله ومنطوقه العقلي، وأيضاً اللفظي، وحينها يسخّر منطوقه اللفظي من أجل الكذب، للضحك على المقابل، وخداعه بدلاً من أن يكون اللفظ والنطق وسيلة بيان، وفصاحة بلاغية منطقية عقلية تظهر الحق وتبينه، تكون حينها للكذب والتضليل!

ومنكرو الغيب جميعهم يندفعون باسم العقل المخلوق المحدود، بالتطاول على اللا محدود واللا مدرك بالحواس المادية حساً ولمساً؛ ويدعون أن حكمهم عقلي! وحينها من الطبيعي أن يكون العقل مفقوداً، لأن الأصل أن يحترم العقل الشواهد والنواظر، والنتائج أصلاً، الصادرة من اللا مرئي واللا ملموس، إلا أنهم ما قبلوا إلا الحس واللمس المباشر العيني البهيمي تخصصاً! علماً أنه من العقل أن نعقل إن كنا عقلاء ونفهم أن المحدود لا يدرك المطلق، ويجب عليه أن يسلم بأن إدراكه للمطلق إحاطة من المستحيلات، وأن عدم إدراكه لا ينفي وجود المطلق في مكنون الغيب، وهذه الفلسفة المعوجة البهيمية هي التي خلّفت لنا كل هذه الشرور والأيدولوجيات والأفكار التي خرجت من الإطار الإنساني، وما زالت تسرح وترعى في البهيمية، وهذه هي النكسة التي سلّم الله سبحانه وتعالى المؤمنين من بهيميتها، وذلك ظاهر وبيّن في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره”.

 

______________________

(*) إعلامي كويتي.

Exit mobile version