رسالة إلى رهين المحبسين!

منذ عرفت طريقي لقراءة الشعر وتذوق شيء من الأدب وأنا كَلِفٌ بأبي العلاء، شديد الإعجاب بأدبه، الشاعر الضرير الذي بَزّ البُصَراء، واللغوي الفيلسوف الذي أعْيَا أهل اللغة والفلسفة، غير مسحة من التشاؤم والإزراء على الحياة صرفت الناس عن أدبه، كيف لا وهو رجل يرى الحياة جناية جناها عليه أبوه، ولم يجنها هو على أحد فمات من غير عقب ولا ذرية، واقرأ له قوله:

إلَى الله أَشْكُو أَنَّنِي كُلَّ لَيْلَةٍ *** إِذَا نِمْتُ لَمْ أَعْدَمْ طَوَارِقَ أَوْهَامِي

فَإِنْ كَانَ شَرّاً فَهُوَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ *** وَإِنْ كَانَ خَيْراً فَهُوَ أَضْغَاثُ أَحْلَامِ

يالله.. كيف يستقبل المرء حوادث الأيام بهذا الرجاء المهزول، والآمال الضامرة؟!

فلا جرم أن اعتزل الرجل الحياة، ولزم بيته يعلّم طلابه، ويبث علمه في الناس دون أن يخالطهم، أو يرجو منهم احتفاءً في حياته، أو تكريمًا بعد مماته، فهو القائل:

لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي *** ريب المنون فلا فضيلة للجسد

وإنما ذكّرني بأبي العلاء رسالة وافتني من خلٍ من أخلائي، وحميمٍ من جلسائي، تقاسمت معه الصفاء، وتساقيت معه كؤوس المودة والإخاء، فكلاهما رهين المحبسين، أبو العلاء رهين البيت والعمى، وصديقي رهين البيت وخوف الإصابة من الوباء، غير أن أبا العلاء دخل عزلته مختارًا طائعًا، وأثمرت عزلته شعرًا وأدبًا ولغةً، وصديقي دخل العزلة مكرهًا غير طائع، فضاقت عليه الأرض بما رحُبَت، وأرجو ألا يخرج منها صفر اليدين من علم مستفاد أو مهارة مكتسبة!

وقد رأيت أن أجعل الرد على رسالته فرصة سانحة للبوح بما يدور في خلدي من مشاعر، ويطيف برأسي من أفكار.

صديقي الفضيل الأعز/ أبا العلاء (اسم وسمته به من باب المعابثة والدعابة).

وافتني رسالتك فتقبلتها بقبول حسن، وحمدت الله على تمام عافيتك، وموفور صحتك، تغدو وتروح في فضل الله، وتصبح وتمسي في نعمه، وقد أفصحت كلماتك الحامدة الشاكرة عن الرضا بما قدّره الله وقضاه، وإن كانت تشي من وراء غُلالة رقيقةٍ عن شيء من الحيرة والأسى، فقد شكوتَ لي أنك في إجازة طويلة من عملك، وعزلة لا تكاد تخرج منها إلا لِمَامًا لشراء ما لابد منه من حاجيات ضرورية لأسرتك، ولأنك رجل قنوع، عفيف النفس، ترضى بميسور العيش، وتخشى أنْ أظنّ بك شيئًا من الجَزَع لعُسْرة مالية أو ضيق ذات يد؛ فقد ذكرت لي أن رزقك دارٌّ وأمورك على ما يحب الصديق ويكره العدو، وأن الذي يكدر عليك هناءتك أمر غير المال، وإنما هو هذا الوقت الفائض الزائد زيادة تُمِلُّ وتُضْجِر، وأنت رجلٌ لا تعرف لذةً في غير العمل والكدح، ولا تصبر على مُجانبة الناس.

فزادني ذلك أسفًا إذ رأيت تلك العزلة تنحت كل يوم من اصطبارك، وتعمل في نفسك عمل القطرة في الحجر الأصلد، تُبْصر من لطافتها وشفافيتها فلا تظن أنْ تبلغَ من صلادة الحجر شيئًا، وما إن تغفل عنها أيامًا أو شهورًا ثم تنتبه إليها، وإذا الحجر تحتها قد انتقر وتشقّق .

وقد حملني ما بُحْتٌ به – أيها الحميم المواتي – أن أبعث إليك برسالتي تلك عسى أن تجد فيها سلوةً في عزلتك، أو هاديًا يأخذ بيديك للخروج مما أحاق بك، ورأيت أن أغتنم ما سنح من الفرصة لأجدّد ما بلِي من عهد الإخاء، وما تَصَدّع من مواثيق الحب والوداد.

صديقي الحِبّ أبا العلاء.

إن ما تجده من الملل من تلك الساعات الثقيلة الزاحفة لست فيه وحيد أيامك، وإنما هي شكوى يضج منها العالم من شرقه لغربه، وتئن منها شعوب وأمم، فإن حضارة اليوم يا صديقي لم تخش شيئًا في غابر أيامها وحاضرها كما خشيت هذه الساعات، ولم تفر من مواجهة شيء كما فرّت من هذا الفراغ والوقت الفائض العريض.

فعالمنا الآن ينتسب – طوعًا أو كرهًا – للحضارة الغربية التي تمسك بمقود الريادة والسيطرة، وتطبع كل شيء بطابعها، وتهيمن على عقول الناس وتشكّل تصوراتهم وفق قيمها وأفكارها، قيم التوسع في الاستهلاك والإنفاق، ومفاهيم (اشتر الآن وادفع لاحقًا)، وعوالم الموضة والماركات التجارية العابرة للحدود، وبطاقات الائتمان والدفع الآجل، وطفرات الهواتف النقالة، والكاميرات المزروعة في كل مكان، وديون المصارف وبيوت المال التي تعيش على دماء الناس وامتصاص مدخراتهم!

وهي حضارة تساندها ثورة تكنولوجية مذهلة، ووثبات علمية لم تكن لتخطر للإنسان على بال في عصوره المواضي، وثقافة تصنع من إنسان العصر كائنًا مستهلكًا نَهِما، لا يكاد يستقر على شيء أو يعجبه شيء، وإن أتيح له فسحة من وقت عقب يوم مليء بالعمل والكدح اللاغب، أحدقت به قائمة طويلة من وسائل الترفيه، أندية، ملاهٍ، حانات، سيرك، دور سينما، عروض أزياء، دوري كرة قدم، مهرجانات سينمائية، ومن عجز عن الوصول إليها، وصلت هي إليه.

حضارة تتنكّر للسكينة، وتدير ظهرها للتأمل، ويعز عليها أن يلتقط الإنسان المكدود أنفاسه، وتستكثر عليه أن يأوي إلى شاطئ يستريح عليه بعد هذه المصارعة الطويلة المرهقة مع أمواج الحياة، التي ترفعه وتخفضه، وتلطم عينه ووجهه، وتسقيه من مائها الملح ما لا يروي ظمأه.

ولا يذهب وهَلَك يا صديقي أننا  في بلاد الشرق العربي بمنجاة من آثار تلك الثقافة الكنود الجاحدة، فقد غزتنا حتى النخاع، وسرت سمومها في أوصالنا، وغدا المسلم العربي في بلاد الشرق -بَلْهَ بلاد المسلمين- ليس أحسن حالًا من أخيه الأوروبي، بل إن أخاه الأوروبي أسعد منه حظًا؛ فهو يعمل كادحًا سحابة يومه ثم ينقلب آخره إلى مظان الترفيه يقتل وقت فراغه فيما يظنه نافعًا لعقله ووجدانه، أما صاحبنا العربي فهو يتقلب طيلة يومه في بطالة مَعِيبة، وعمل مُهلْهَل لا غَنَاء فيه، ثم ينقلب آخر يومه يقتل وقته فيما لا ينفع عقله أو يغذي وجدانه، فاجتمع له كما جاء في المثل “حَشَفٌ وسوءُ كيلة”!

وقد تستغرب خوف القوم من الفراغ هذا الخوف الرعيب، غير أنك إن أنعمت التأمل لوجدت القوم لا يفرون من فراغ أوقاتهم، فهم كما ذكرت آنفا لا يكادون يهدؤون إلا ريثما ينشغلون، ولكنه الخوف من فراغ نفوسهم وخَواء أرواحهم، ولا يظهر مثل هذا الفراغ النفسي إلا في الأوقات التي يواجه الإنسان فيها نفسه، ويخلو بقلبه وروحه، فيفجؤه أنه كالهباءة التي لا تعرف مبدأها ولا منتهاها، ويصخ أذنيه صوت فطرته الصارخة في أعماقه، المطمورة تحت الملهيات والشواغل، ويلذعه الشعور بانعدام القيمة وغياب الأهداف!

وقد ترى ما ذكرتُ لك من أمر هذا الخوف دعوى عارية عن الدليل، فدونك هذين الخبرين الذي يقومان من كلامي مقام البينة من الدعوى:

أولهما ذلك الخبر الذي نشره موقع “CNN” العربي بتاريخ 6/ 4/ 2020: “حيث دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى حماية النساء والفتيات من العنف الأسري وسط تقارير عن تزايد حالات العنف المنزلي والأسري خلال فترة الحجر الصحي، على خلفية تفشي وباء فيروس كورونا المستجد”.

وأضاف الأمين العام “على مدى الأسابيع الماضية ومع تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وتنامى المخاوف شهدنا طفرة عالمية مروعة في العنف المنزلي”، مطالبًا بشكل خاص بإنشاء أنظمة إنذار طارئة في الصيدليات ومحلات البقالة – وهي الأماكن الوحيدة التي لا تزال مفتوحة في بلدان كثيرة – مشددًا على ضرورة تهيئة سبل آمنة للنساء لالتماس الدعم دون أن ينتبه المعتدون.

ثانيهما: ما نشرته شبكة الجزيرة الإخبارية على موقعها بتاريخ 18/ 3/ 2020 نقلًا عن وكالة “الأناضول” عن واين فيد، المسؤول التنفيذي في متجر للأسلحة بولاية نيو جيرسي: “إن متجره يشهد من يومين صفوفًا طويلة من الأمريكيين الراغبين في شراء أسلحة، واصفًا الأمر بغير الاعتيادي، وذلك لأن لدى المواطنين الأمريكيين قلقًا بالغًا حيال احتمال توقف خدمات معينة، وبالتالي يتملّكهم الخوف بشأن الكيفية التي يحمون بها منازلهم وأسرهم، ولذلك اتجهوا لشراء الأسلحة المخصصة أكثر لحماية المنازل”.

ويقول صاحب المتاجر (حياة غن) في ولاية كارولينا الشمالية، وهو من أكبر متاجر بيع البنادق في أمريكا: “إن مشاهد الشراء الكثيف للأسلحة في متجره غير مسبوقة”، مضيفًا أنها المرة الثانية من 61 عامًا من العمل التي نرى فيها شيئا من هذا القبيل.

وأضاف: “لقد زادت هذه المبيعات بنسبة 68%، ثم ارتفعت إلى 309%!

والخبران لا يحتاجان شيئًا من التعليق يا صديقي؛ فهما ناطقان بما ذكرته لك من أسباب خوف القوم من الفراغ، فرجل العصر الذي خَوَتْ نفسه، وتصحّرت روحه؛ يرى في الفراغ وحشًا إن نهشه أو عضته أنياب، فسيصيبه من السعار ما يجعله خطرًا على نفسه وعلى الناس من حوله!

وائذن لي أن أسميها “حضارة رجل العصر” وليست حضارة الغرب، فلسنا – نحن العرب والمسلمين – سوى تبَعٍ للغرب فيما يحب ويكره، ويرضى ويسخط، فهل من الإنصاف أن نبرئ التابع ونتهم المتبوع؟!

ولكن ما بالنا قد أصابنا ما أصاب القوم من كراهية الفراغ ومقته؟!

أهو الفراغ النفسي والخواء الروحي الذي ورثناه من حضارة القوم؟!

وهل أضعنا في سعينا اللاهث خلف القوم شيفرتنا الحضارية، وضللنا عن وظيفتنا الرسالية؟!

كل ذلك محتمل لا تتحمل بسطه تلك الرسالة العجلى!

ولعلي أجيبك على هذه الأسئلة في قادم الرسائل.

أما الآن فأضع القلم مخافة سآمتك، فقد عرفتك قليل الاصطبار على القراءة، عزوفًا عن المطالعة، إلا أن يكون قد أصابك بعدي ما لا أعلمه من حب القراءة والإقبال على المطالعة!

ولكن هل يشكو مرارة العزلة قارئ أو يتبرم بالوحدة مثقف؟

وأختم كتابي إليك ببيت صاحبنا أبي العلاء نستلهم فيه الأمل وإن عاش صاحبه متشائمًا:

أما المَكانُ فَثابِتٌ لا يَنطَوي *** لَكِن زَمانُكَ ذاهِبٌ لا يَثبُتُ

فاستبشر وتفاءل، وحدّث نفسك بقرب الفرج.!

آنسك الله في معزلك، وآنس وحشتك، وهوّن عليك خلوت.

ودُمت بخير أبدًا.

Exit mobile version