قصة موسى عليه السلام هي أكثر قصص القرآن دورانًا في القرآن؛ فهي حكاية البشرية الأزلية الأبدية، وقصة المصلح في وجه الظلم، ظلم الحاكم المستبد الذي يستعبد الناس، ويجندهم لتأليهه، وظلم النفس الإنسانية التي تستبد بها شهواتها، فتتأبّى على الطاعة، وتتمرد على منهج الله.
وسيظل المصلحون في حاجة متجددة للوقوف أمام هذه القصة طويلًا!
وقد استوقفتني في إحدى زوايا هذه القصة الخالدة لفتة أردت أن أسوقها لعلّ فيها نفعًا.
في سكة من سكك المدينة بمصر، يبصر موسى عليه السلام رجلاً عبريًا من شعب بني إسرائيل يقاتل مصريًا، فينتصر لابن شعبه المظلوم المضطهد، ويدفع المصري دفعة شديدة يخرّ على إِثْرها صَرِيعًا.
ويسَتبدُّ الندمُ بنبي الله على تلك النفس التي أُزهقت، ويتوجه إلى ربه بكلماتٍ ضارعةٍ: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}.
وكأنه يقول: اللهم إني أقسم بإنعامك عليَّ بالهداية والمغفرة أنني لن أكون عونًا لظالم أو مساعدًا لمجرم، أو إني أسألك بسابق إنعامك عليَّ أن تعصمني من الوقوف في صف المجرمين فيما هو آت!
إنّ من تمام نعمة الله عليك أن يعصمك من الميل لمُفسد يزيّن لك الفجور، ومن كمال التوبة أن تقرر في إصرار جازم مقاطعة المجرمين، وتُعاهِد على ترك نصرتهم بالقول والفعل.
وبقيت كلمة موسى عليه السلام بعده دستورًا خالدًا يستضيء بها كل مصلحٍ ناصحٍ، وكل تائب منيب!
ولكنْ كم مِنّا استشعر إنعام الله عليه، وسابغ أفضاله فقرّر وعاهد ألا يكون ظهيرًا للمجرمين؟
إنعام الله علينا وقد أبقى في حياتنا أيامًا أو شهورًا أو سنوات نستدرك بها ما فرط من أعمارنا بتوبة نصوح، وأوبة تمحو الأوزار!
إنعام الله علينا بحِفْظِنا من وباءٍ ينهش في الناس من حولنا، ويلحق أمواتًا بأموات، من غير وداع ولا عزاء!
إنعام الله علينا بأن أرانا الحق حقًا والباطل باطلًا، في فتن انطمست فيها بصائر، وضلت أفهام، وزلت أقدام!
أَمِنْ الحكمة أن نقابل هذا الأنعام الفيّاض، والخير الهاطِل بأن نصطف في صفِّ مجرم، فنستبدل النقمة بالنعمة، ونستحق من الله السلب بعد العطاء؟ اللهم غَفْرًا!
ولكن هل يطيق مسلم واع، عاقل رشيد، صحبة المجرمين فضلًا عن عونهم ونصرتهم؟
ألا يجوز أن تكون هذه الصحبة لغفلة منه، أو مكر منهم أخفوا به إجرامهم فخُدِع بهم السُّذَّج؟
أما أن يصاحبهم وينصرهم وهو كامل العقل، تام الوعي فهو مُسْتبَعدٌ لا يكاد يجرؤ عليه مسلم؟
ولكن لا يَطُل عجبك أيها القارئ، فإنّ من عقلاء المسلمين وراشديهم من يُقْدِمون على صُحبة المجرمين عن قصد وإصرار!
بل وأزيدك من الخبر ما يزيد عجبك -أو ألمك-، فإن منهم من يستضيفون هؤلاء المجرمين في بيوتهم أيامًا وشهورًا، ويخلطونهم بزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم!
بل ويرَوْن فيهم مثلًا أعلى يستحق التأسي والاقتداء، فيدعمون إجرامهم، ويصفقون لفجورهم، ويباركون معاصيهم التي تقع منهم تحت السمع والبصر!
ويزيدون الأمر علة فيجعلون هذه الاستضافة في أكثر الأوقات شرفًا، وأعظمها عند الله قدرًا، وأكثرها صفاء، فيكدّر هؤلاء المجرمون صفاء أيامهم، ويمنعون بركتها!
أعلمت عمن أتحدث أيها القارئ الحصيف؟
أتحدث عن ضيوفنا في مسلسلات رمضان وسهراتها، ومسابقاتها و”مقالبها”.
ولست أعني الفن الهادف أو الترفيه الراقي، وإنما ذلك العبث الذي يهبط بالأذواق، ويخاطب الغرائز والشهوات؛ فلا تستكثر عليهم وصف “مجرمين”؛ فالكلمة أقل من أن تفيهم حقهم أو تحيط بشرهم.
إنهم مجرمون بامتياز..
مجرمون في حق الله ورسوله ودينه، وهم يحادون الله في خير المواسم وأكثرها حرمة عند الله.
مجرمون في حق الخلق والفضيلة، وهم ينشرون على الناس قاموس البَذاء في السلوك والأفكار والألفاظ!
وهل أكثر إجرامًا ممن يجعل من التعري والزنى والبلطجة والقتل، وتلك الغلطات البشرية، والسوءات الإنسانية صورًا تستحق التعاطف والإكبار.
مجرمون في حق الفقراء والمحرومين، وهم يصورونهم سفلة أقذارًا، متحللين من كل مكرمة، ملوثين بكل قبيح، فهم في نظرهم جناة، لا ضحايا أنظمة جائرة مارست بحقهم التهميش، وحرمتهم جودة التعليم، والمسكن الكريم، والنشأة الصالحة، والرعاية اللائقة!
مجرمون في حق المجتمع، وهم الذين يمتصون أمواله، ويُثْرُون من جيوب أبنائه، فإذا جَدَّ الجِدُّ، وهتف داعي التضحية والعطاء في الشدائد والملمات، ذابوا كما يذوب الملح في الماء.
مجرمون في حق الوطن، وهم يختزلون حبه في الشعارات والتصريحات، فإذا انتدبتهم أوطانهم في أعمال جادة رشيدة، التحقوا بمؤخرة الركب، فالجد والرشد لا يُدرَّان عليهم ما يدره الهزل والسفاهة.
مجرمون وهم يعرضوننا لوباء شديد الخطورة، وباء يلزمنا الاحتراز منه أكثر من احترازنا من غيره من الأوبئة، إنه الوباء الأخلاقي القيمي، وهو أشد فتكًا من الوباء البيولوجي، فهذا غايته الفتك بالأبدان، أما ذاك فيفتك بالعقول والقلوب والأديان.
فمن كان منا فيما مضى يتكئ على عفو الله، ويغتر بحلمه، فإننا اليوم بين يدي بلاء ينذرنا به ربنا من التمادي في العصيان، ويأخذ بنواصينا إلى الحق؛ فالإصرار على صحبة المجرمين الآن جريمة مضاعفة، تُؤْذِن بزوال النعم، ونزول النقم.
فاللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلاً.
واصرف عنا المجرمين، واصرفنا عن المجرمين، وتب علينا إنك جواد كريم.