العزلة في زمن الكورونا

العزلة فرصة عظيمة للإنسان لاكتشاف ذاته، في عالم صارت فيه عزلة الإنسان لحظة نادرة يطحنها صخب الحياة، جاء عدو لا تراه العين، وفرض على معظم سكان المعمورة عزلة جبرية، قد تكون فرصة لبعضهم لإعادة اكتشاف ذاته .

واكتشاف الذات في العزلة فكرة شغلت كثيرا من الفلاسفة، وصاحب السبق والعمق الفلسفي في تناول هذه الفكرة هو الفيلسوف الأندلسي “ابن الطفيل”، والأكثر شهرة في الغرب في تناول هذا الموضوع هو “دانيال ديفو”. الأول في قصته (حي بن يقظان)، والثاني في قصته (روبنسون كروزو).

وقد برع ابن الطفيل ودانيال ديفو في اكتشاف بطلي قصتيهما من خلال تصرفاتهما في العزلة؛ فتصرفات الإنسان في عزلته وطريقته في ملء فراغ العزلة، هو الأكثر تعبيرا عن ذاته .

“حي بن يقظان” بطل قصة ابن الطفيل انشغل في عزلته بالتفكر والانشغال بالأسئلة الكبرى حول الحياة والمصير بعد الممات وخالق الكون .

بينما “روبنسون كروزو” انشغل في عزلته بتدبير سبل العيش، وصنع أدواته بنفسه، والبحث عن مصدر طعامه .

بكل بساطة تستطيع اكتشاف الفارق الجوهري بين الذاتين من خلال تصرفاتهما في عزلتهما .

ذات تهتم بالتفكر في أسئلة الإنسان المصيرية، وتتطلع لما وراء المادة.. وأخرى منشغلة بتدبير المعاش والعمل اليدوي .

وسآخذك بعيدا عن هذه الحالة إلى حالة الأديب “توفيق الحكيم” الذي انتقل من صخب الحياة الذي اعتاده لفترة في باريس، وقبله صخب حياة القاهرة، ثم وجد نفسه في وظيفة نائب محكمة في الأرياف، تحول فجأة إلى ملل وسكون الريف، فكان من ثمرة عزلته كتاب “يوميات نائب في الأرياف”، وهو من أجمل كتبه، ومن أصدق الكتب التي قدمت رؤية عن حال الريف المصري بأسلوب أدبي رفيع .

هذه نماذج للإنسان في عزلته، قد نجد أنفسنا في واحد منها: إبداعات مادية وصنع أدوات، خلوة وتفكر، ممارسة الكتابة …

علماً بأن ممارسة الكتابة صارت لا تحتاج ورقة وقلما ومكتبا كما في السابق؛ فمن خلال هاتفك الذي لا يفارقك، استخد (Notes)، واكتب يومياتك مع عزلة كورونا.. اكتب مذكراتك.. ذكرياتك؛ فربما صِرتَ توفيق الحكيم، أو ربما يهبط عليك جِنُ الشِعر على تقدم منك في السن فتصبح “النابغة الذبياني” .. (وما ذلك على الله بعزيز!).

صدقني: الخلوة والجلوس مع نفسك متعة كبيرة.. نفسك هي أخلص النفوس لك، وأقربها منك، وأعلمها بك.

نفسك حاملة ذكرياتك، ومستودع آمالك وأحلامك..

نفسك حديقتك الجميلة التي غزتها الحشائش في غفلة منك، أسرع نحوها بكل شغف.. جدد فيها زرع الورود والرياحين.. اقتلع منها الحشائش الضارة.. وانتبه للمعنى في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [سورة الشمس: 9، 10].

Exit mobile version