بني وطني..

بات العالم أجمع يحبس أنفاسه وهو يتابع آخر أنباء الوباء المفجع. وقد داهمنا بمصرنا العزيزة مؤخراً مع هذا الطاعون الذي يحصد أرواح المصريين، إعصار التنين هذا الذي ضرب البلاد فكأنه جعل عاليها سافلها وغير حالها بين عشية وضحها، فهل كانت ردة فعلنا شعبا وحكومة على مستوى الحدث الجلل؟!

هذه تأملات أكتبها لبني وطني، لا أرجو بها أن أنفس عن غضب مكتوم، بقدر ما آمل منها أن توقظ الإيمان في القلوب، وتحرك الضمائر في الصدور، وتدفع لتفكير جاد يشحذ العقول. والله من وراء القصد وهو علام الغيوب. ﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ ﴾[الأعراف:164]

بني وطني..

الجد الجد، إن من عاداتنا نحن المصريين المتجذرة فينا روح الفكاهة والسخرية، فهي لا تفارقنا حتى في أحلك الأوقات، وإن خفف هذا من وقع المصائب حينا، فلن يجدي فتيلاً إذا ما عظم الخطب الذي يستدعي أن نأخذ الأمر على محمل الجد، وأن نجتهد في التضرع إلى الله  جل جلاله، فإن كثرة الضحك تميت القلب، فهلا هرعنا إلى الله سبحانه وتعالى بقلوب مخلصة، كي يرفع عنا البلاء، ويفتح لنا أبواب الرحمة، أم سنظل سادرين في عنادنا وغينا، فيحق علينا قول ربنا ﴿فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ﴾[الأنعام:43]  لقد صار حالنا كما قال الشاعر أحمد محرم:

أرى الأرض ترجف بالعالمين ** ويسبح سكانها في الدم

وفي مصر شعبٌ دهاه القضاء ** فلم يدر شيئاً ولم يعلم

يجيء ويذهب في المضحكات ** كعهدك في الزمن الأقدم

وجاءت من الله رسل غضاب ** تصب العذاب على المجرم

فمن يستهن برسالاتها ** يعذب ومن يستقم يسلم

حذار بني مصر من وقعها ** صواعق تعصف بالأنجم [1]

لقد شاهدنا السماء تعلن عن غضب الجبار تعالى، بأمطار بلغت حد السيول، ورعد وبرق هز الأعصاب هزا عنيفا، أفما كان هذا داعيا لنا لنتأمل في آثار ربوبيته، وقدرته، وسلطانه، وجبروته جل جلاله؟

أفما كان هذا كافيا أن نعترف بدينونة الكون له سبحانه وتعالى، والعجز البشري التام عن التدبير ﴿هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ ﴾[الرعد:12]؟!

بني وطني..

التوبة التوبة قبل فوات الأوان،  قال تعالى: ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِير﴾ [الشورى:30] وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة”[2] وإن الذنوب التي وقعنا فيها ليست قاصرة على ما يغشاه الفرد من معاص صغرت أم كبرت، خلى بها أو جاهر، بل هناك من الذنوب ما هو أنكى وأشد، كالذنوب الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، حيث الانحلال الأخلاقي، والفوارق الطبقية المجحفة، فلهؤلاء عاصمة ولأولئك أخرى، ويستؤثر بالمال، وتشرع القوانين الاقتصادية التي تقنن الاحتكار والفساد لحساب فئة  قليلة، وتظلم بقية فئات الشعب الأخرى، وحدث ولا حرج عن تعطيل الشورى، وحكم الفرد المطلق، وغياب العدل في القضاء.

عن هذه الذنوب وغيرها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خِصَالٌ خَمْسٌ إِنِ ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَنَزَلْنَ بِكُمْ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بها إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ وَيَأْخُذُ بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ إِلَّا جَعَلَ بِأَسَهُمْ بَيْنَهُمْ “[3].

إن من شروط التوبة الصادقة رد المظالم إلى أهلها فهلا أعدنا الحق لأهله  :

أخاف على القوم من نكبةٍ ** تبيت لها مصر في مأتم

أرى الأرض تخسف بالظالمين ** وأي بني مصر لم يظلم

خذلنا الكتاب ورب الكتاب ** فأين الحمى وبمن نحتمي [4]

بني وطني..

إياكم وإهمال قانون السببية والاتكال بأن بلادنا محفوظة فهذا تخدير للعقول، وهو منطق لا يقبله الإسلام البتة، الذي وضع سبلاً للوقاية كالحجر الصحي، وكانت سابقة لأوانها، ورد في قصة طاعون عامواس بالشام الذي حدث على عهد عمر رضي الله عنه، حين أراد العودة للمدينة فقال له أبو عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه: “أفِراراً من قَدَر الله؟

فقال عُمرُ: لو غيرك قالها يا أبا عُبيدةَ! نعم، نَفِرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر اللهِ…

جاء عبد الرحمن بن عَوْف -وكان مُتَغَيِّباً في بعضِ حاجتهِ- فقال: إن عندي في هذا علماً؛ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: “إِذا سَمِعْتُمْ بِهِ بأرضٍ فلا تَقْدَمُوا عَليهِ، وِإذا وَقَع بأرضٍ وأَنتُمْ بِها فلا تَخْرُجُوا فِراراً مِنْهُ” [5].

لقد غاب في معالجتنا لهذه الأزمة كالمعتاد الأخذ بمبدأين عظيمين: المكاشفة والعلم، فرحنا نكذب تارة، ونكتم تارة أخرى، ونطلق التصريحات العنترية بلا حسيب ولا رقيب تارة ثالثة، ولم نعالج الأمر بشفافية تمكننا من سرعة اتخاذ القرار الصحيح، وبشكل سليم، وغاب العلم  كذلك، وفشا الجهل، وكالعادة وقعنا بين فكي الرحى: التهويل والتهوين، في الأرقام والآثار : فقائل بأن حكومة العالم الخفية هي التي تثير الرعب من هذا الفيروس لأسباب اقتصادية وسياسية، وآخر يرى أن الأمر مؤامرة تحاك ضد بلادنا، وثالث يحمل الأمر على محمل الجد، وقد يبالغ فيصل إلى حد نشر الفزع مع نظرة تشاؤمية قاتمة.

وما زاد الطين بلة انهيار البنية التحتية التي تكلفت على حد قولهم أربعة ترليون جنيه في هذا الإعصار الذي لم يستغرق سوى يومين، فما سر هذا الانهيار السريع للطرق، والكباري، والجسور، وغرق قرى بأكملها؟

إنه غياب أهل الذكر العلماء المتخصصين عن دراسات الجدوى، والتخطيط، والتنفيذ، فضلا عن الفساد المستشري، والسرقات الهائلة، يجمل لنا ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: “فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ”.

قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: “إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ” [6]

بني وطني..

إن الحلول الفردية المبدعة، وروح التكافل العظيمة التي سادت المجتمع في تلك الأزمة تنم عن بقية خير، وأمل لا يجوز لنا بحال أن نفقده في أمتنا، وتشير فوق هذا إلى وجوب البناء عليه، واستثماره، وحبذا لو تكاتفت الأيدي، وتحولت الجهود الفردية إلى مؤسسات أهلية تتبنى الأفكار الخلاقة، وتتعاون هذه المؤسسات الخيرية للتنسيق فيما بينها قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [المائدة:2] ، وتلك خطوات مهمة تسبق بناء الدول، فإن الفرد قبل المجتمع، والمجتمع قبل الدولة.

بني وطني..

إن فجر أمتنا قادم لا محالة رغم ليل الطغيان فاعملوا ﴿وَلَا تَاْيۡ‍َٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡ‍َٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ﴾ [يوسف:87].

———

الهوامش:

[1] ديوان أحمد محرم ص: 246

[2] طريق الهجرتين وباب السعادتين – دار ابن القيم (ص: 415)

 شعب الإيمان (5/ 22).

[4] ديوان أحمد محرم ص: 246

[5] مختصر صحيح الإمام البخاري (4/ 21)

[6] صحيح البخاري (1/ 21).

Exit mobile version