مجلة «المجتمع».. ذلك الحصن المنيع

ستظل مجلة «المجتمع» علامة بارزة في تاريخ الصحافة العربية والإسلامية، وسيتوقف الباحثون والمؤرخون باحترام كبير أمام دورها الفكري والثقافي والسياسي الذي قامت به على امتداد نصف قرن مضى، صنعت خلاله ملحمة كبرى وهي تخوض غمار معارك صعبة في بناء الوعي الثقافي والحضاري، والتصدي لموجات الغزو الفكري، ومحاولات اجتثاث الهوية الإسلامية التي قام بها –وما زال– المشروع الغربي الصهيوني، الذي يسعى بكل ما أوتي من إمكانات ضخمة للتمكين للصهاينة من فلسطين، وإلقاء المنطقة العربية في مستنقع التطبيع، والعمل بكل دأب على إلحاقها بالمشروع الغربي الاستعماري.

في هذه الأجواء، تشرفت بتولي مسؤولية إدارة تحرير مجلة «المجتمع» على امتداد أحد عشر عاماً (1425هـ/ 2004م – 1436هـ/ 2015م).

وفي محطة من محطات تلك المسيرة المشرقة، وأعتبر أن تلك السنوات من أفضل محطات عملي الصحفي، فقد كان عملي بجريدة «الشعب» في مصر قبل «المجتمع» مرحلة لها طابعها وقضاياها وظروفها ومعاركها الصحفية التي يغلب عليها الطابع المحلي، وفي «المجتمع» انتقلتُ إلى أجواء أخرى وبأداء مختلف يعايش قضايا العالم الإسلامي على اتساعه، ويتبناها ويعبر عنها بأفضل الأدوات، وأسأل الله قبول ما بذلتُ وزملائي في تلك المرحلة.

أقول: كانت «المجتمع» خلال نصف قرن من الحصون المنيعة التي ساهمت في مواجهة التحديات والأخطار، بقدرة فائقة، وساعدها في ذلك متانة نهج وموقف جمعية الإصلاح الاجتماعي برجالها، والإيمان الراسخ من فرق التحرير المتتالية جيلاً بعد جيل برسالتها ودورها، كما ساعدها في ذلك أجواء حرية الرأي التي تحظي بها الكويت التي سمحت بحرية العمل الصحفي على نطاق واسع.

وقد جاء إصدار مجلة «المجتمع»، الثلاثاء 9 المحرم 1390هـ/ 17 مارس 1970م، بينما كانت المنطقة تموج بتفاعلات تحت السطح تنبئ بتباشير صحوة إسلامية راشدة ما لبثت بعد سنوات قليلة أن أشعت بنورها على المنطقة العربية، وقد أسهمت «المجتمع» بأعدادها الثرية والعميقة والجادة في صناعة تلك الصحوة، وظلت منبراً قوياً للتعبير عنها، وباتت سجلاً تاريخياً موثقاً لتطورات وأدبيات ومشاريع تلك الصحوة.

ولا نبالغ إذا قلنا: إن «المجتمع» والصحوة ولدتا من تربة واحدة؛ هي الساحة الإسلامية الواسعة، ومن فكرة واحدة؛ هي الفكرة الإسلامية الشاملة، ولا غرابة في ذلك، فمن أطلقوا «المجتمع» هم ركن مهم من أركان الصحوة، وهم من الذين وفقهم الله ليوقفوا حياتهم على خدمة الإسلام والمسلمين حول العالم عبر جمعية الإصلاح الاجتماعي.

ولهذا، فـ»المجتمع» مجلة ذات رسالة تنتمي إلى الإسلام ذاته، وتعبر عن مشروع هو المشروع الحضاري الإسلامي، وهي في الوقت ذاته مدرسة شاملة ومتكاملة ظلت تخرّج أجيالاً من الصحفيين والكتَّاب المحترفين ينتشرون اليوم حول العالم، وتزود في الوقت ذاته قرَّاءها بزاد أسبوعي مهم في السياسة والاجتماع والاقتصاد والفكر والحضارة والتاريخ، وتصدى للكتابة فيها كبار المفكرين والمؤرخين والكتَّاب من قادة الصحوة الإسلامية في بقاع عديدة من العالم، واستطاعت أن تكوّن طبقة واسعة من القراء كانوا ينتظرونها بشوق كل أسبوع، وأن محتوى رسائل القرَّاء التي كانت تصلني من أقاصي البلاد في قارات العالم تؤكد ذلك.

حملت شعار «مجلة المسلمين في أنحاء العالم» دون تفرقة، وعبَّر عن ذلك بيت الشعر الذي تصدر باب «المجتمع الإسلامي»:

وأينما ذكر اسم الله في بلد                       عددت أرجاءه من لبّ أوطاني

وظلت هكذا تتبنى قضايا المسلمين في كافة أنحاء العالم، وكانت قضايا الأقليات المسلمة حول العالم حدثاً حاضراً ودائماً على صفحات المجلة، وقامت في هذا الصدد بتناول قضايا منسية لمسلمين حول العالم وتعريف القراء بها لأول مرة بعد عملية تعتيم مقصودة وتجاهل من وسائل الإعلام لها، كما قامت المجلة بزيارات ميدانية بين هذه الأقليات لتوصيل صوتهم وقضيتهم للعالم، ذلك إلى جانب تغطية كل الأحداث الساخنة المتعلقة بالمسلمين حول العالم.

وإن صدور أول عدد من المجلة حاملاً على غلافه صورة –دون أي كلام- لرجل عربي رافعاً يده اليمنى بالتحية وحاملاً في يده اليسرى بندقية يلخص رسالة مجلة «المجتمع»؛ «دعوة للسلام، وجهاد من أجل تحرير الأوطان من المحتل».

واليوم، فإن الساحة أشد حاجة لبلورة مشروع إعلامي كبير تتبناه مجلة «المجتمع»، ويلتف حوله كل أبناء المشروع الإسلامي، ويتحالف مع المنافذ والمشاريع الإعلامية الأخرى في التعبير عن قضايا الأمة والدفاع عن حقوق شعوبها، فالأمة تعيش مرحلة من أصعب مراحلها، وتواجه تحديات وأخطار غير مسبوقة، خاصة بعد استعلاء واستفحال المشروع الصهيوني، وبعد تعثر «الربيع العربي» واختطاف أحلام الشعوب في الحرية.

أسأل الله التوفيق والسداد لمجلة «المجتمع» والقائمين عليها: الأستاذ محمد سالم الراشد، رئيس التحرير، والفريق التحريري والكتَّاب والمراسلين في مواصلة المسيرة نحو نصف قرن جديد إن شاء الله تعالى.

Exit mobile version