العلامة المغربي بوخبرة.. مدرسة متعددة التخصصات

خلفت وفاة العلامة المغربي محمد بن الأمين بوخبرة (أبو أويس) أجواء مؤثرة بين أهله وتلامذته ومحبيه، وعرفت جنازته التي أقيمت في مدنية “تطوان” حضوراً كبيراً لم يشهد لأي جنازة أخرى في الوقت القريب.

ويعتبر الفقيد، الذي توفي يوم الخميس 30 يناير، عن عمر ناهز 88 عاماً، محدثاً بارزاً وفقيهاً متمكناً ومؤرخاً متألقاً بل وأديباً زاهداً، كما تخرج على يديه مئات من طلاب العلم الشرعي من مختلف دول العالم، منهم علماء ودعاة.

ويقول عنه تلميذه فؤاد الدكداكي، في تصريح لـ”المجتمع”: هو محمد بن الأمين بن عبد الله بوخبزة الحسني العمراني التطواني المغربي، ولد رحمه الله عام 1351هـ/ 1932م، وتوفي عام 1441هـ/ 2020م، كان رحمه الله مدرسة متعددة التخصصات، اجتمع فيه ما تفرق في غيره، فهو بقية السلف حقاً وصدقاً، كان على سنن السابقين في سعة المعرفة، لم يكن رهينة فن من الفنون، بل كان فارساً مغواراً في شتى صنوف المعرفة، ففي اللغة والأدب بلغ الغاية، يُحَبرُ الرسائل بأسلوب يأخذ الألباب، ويطرب الأصحاب، يقول السجع من غير تكلف، وينظم الشعر من غير تعسف، فهو صاحب اللسانين، ملك ناصية البيان بلا مَيْن، خاض جميع البحور فأتقنها، وسلك طرائق النثر فأحسنها.

ويضيف: وأما التفسير فكان مفسراً كبيراً، ختم التفسير في المساجد مرتين، وقف في المرة الثانية في سورة “الزخرف”، يتوسع في الآية بين سبب النزول، والمناسبات، والقراءات، واللغة، والأحكام، واللطائف البلاغية.

وأما الفقه فكان مطلعاً على المذاهب، متحرراً في اختياراته، يدور مع الدليل حيث دار، مع حفظه لمقام الكبار، وأما الحديث فكان صاحب السند العالي، له إجازات قلّ نظيرها، يقصده المشايخ والطلبة من أقصى الدنيا طلباً لإجازته، ورغبة في التتلمذ على يديه، فكان لا يرد سائلاً، هذا مع العلم بدرجة الصحيح والضعيف، والمنسوخ والمحكم.

وأما الاطلاع على المخطوطات، ونفائسِ المكتبات، فهو إمام بلا منازع، شهد بذلك المخالف والموادع، جمع في مكتبته نفائسَ المخطوطات ونوادر المؤلفات، كتب بأنامله منها المئات، حتى أضحت نسخه أصلاً معتمداً، ورغم نفاستها فإنه كان يعطيها للطلاب بدون مقابل، رغبة منه في نشر الخير والعلم، وفق الدكداكي.

ويبرز الدكداكي، في التصريح ذاته، خصال العلامة بوخبرة بالقول: لو أراد الدنيا لنالها بأيسر السبل، لكنه رحمه الله آثر العفاف والكفاف، وازْوَر عن الإعلام والمظاهر، وعاش بين مكتبته وطلابه، ناشراً للعلم، مؤلفاً للكتب، ومربياً للأجيال.

ويؤكد أن للشيخ خطاً جميلاً لدرجة أن الملك الحسن الثاني رحمه الله طلب منه العمل في الديوان الملكي ليكتب الرسائل بالخط المغربي فاعتذر.

علامة تطوان

ونعى الشيخ عدد من الرموز الإسلامية والمؤسسات العلمية وغيرها، وكتب الفقيه المقاصدي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين د. أحمد الريسوني كلمات مؤثرة في حق الراحل، واصفاً إياه بالعلماء الأجلاء الأبرار، والزهاد الأخيار، وقبلة للعلماء والباحثين والمحققين، من المغرب والمشرق، يزورونه وينهلون من علومه، ويتباحثون معه في مختلف القضايا العلمية، وخاصة في مجال المخطوطات.

ونشرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم شهادة في حق الراحل تصفه بعلامة تطوان والمغرب، مبرزة أن الثقافة العربية والإسلامية فقدت بفقده علماً كبيراً من أعلام التراث، المنتمين له، المتبتلين في محرابه، وما أقلهم هذه الأيام.

وأكدت المنظمة أن الراحل الكبير تمتع بقدرة عجيبة على الحفظ والاستحضار، فقد وهبه الله ذاكرة واسعة لا تخون ولا تتردد ولا تنسى، كما امتلك لساناً بليغاً وقدرة على الخطابة والتأثير، وهو ما وظفه لخدمة الإسلام والعربية.

وكتب معهد الخطوط العربية: إن الراحل جمع بين العلم والانتماء والإخلاص؛ العلم الواسع المتبحر في مختلف علوم اللغة والدين، وبخاصة الفقه والحديث، والانتماء للإسلام ديناً وثقافة دعا له وذاد عنه طوال حياته، وعلى كل المنابر التي ارتقاها، والإخلاص الذي لم يخالطه شيء من نوازع الدنيا وبهارجها.

وأضاف أن العلامة نسخ الراحل بخطه الجميل أكثر من ستين مجلداً من كتب التراث، وعلى نسخه المتقنة كان التعويل في تحقيق ما ظهر منها مطبوعاً.

مؤلفات الراحل

بدورها، أعلنت عائلة الراحل عن عزمها نشر مؤلفاته ومصنفاته، بعدما أوصى بـأن يُنظر في تلك الأوضاع والمنشآت، ويُنتقى منها ما يتأكد خيره ونفعه، ويُتبصر في إخراجها، ويتغيا الفائدة المرجوة، والحسنة المتلوة، وعَهد بذلك إلى ابنه وبعض تلامذته.

وقالت العائلة: إنها ستعمل على إخراج مجموعاته “جراب الأديب السائح”، و”نُقل النديم”، و”سَقِيط اللآل”، و”رونق القرطاس”، و”عجوة وحشف”، و”عيون مراسلاته”، و”ديوان شعره”، و”مجموع خُطَبه”.. وغيرها من مُنوعاته، علماً أنه ألف عشرات الكتب والمجلدات والمخطوطات.

وفي أولى ثمار هذا الجهد بعد وفاته صدر مركز “يقين” للدراسات والأبحاث أول كتاب للشيخ محمد بن الأمين بوخبزة بعد وفاته، يحمل عنوان “الاحتلال الإسباني والهوية المغربية.. المقاومة والتدافع الثقافي”.

وأشار المركز إلى أن طبع هذا الكتاب جاء بإذن من الشيخ بوخبزة قبل وفاته، موضحاً: كان لنا عظيمُ الشرف بالتعامل مع الشيخ رحمه الله الذي تابع معنا أشغال هذا الإصدار قبل مرض موته، وكان عندنا إذن منه بطبع هذا الكتاب الذي كان مسروراً به، واليوم يتجدد هذا الشرف مع أفراد أسرته الكرام.

Exit mobile version