العقل يصفه أهل الاختصاص: “هو جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات، وهو القوة المدركة للأشياء على ما هي عليه من حقائق ومعان، والعلم بكل المدركات، وهو مخلوق يسترشد بمن هو أعلى منه بطبيعته الخلقية الناقصة باطراد علمياً وتجربة”.
وأيضاً.. العقل تأخذه الأهواء كما تأخذه الحقائق والعلوم المبهرة.
وفي الشرع قالوا في العقل: “هو القوة المهيأة لقبول العلوم”، فلذلك بعض الفلاسفة وأهل العلم قالوا: “العلم أرفع من العقل، وما العقل إلا وسيلة الإدراك الشامل، والعلم أقدم من المخلوق، والعقل لا شك مخلوق”.
وسمي العقل عقلاً نسبة إلى عقال الناقة لأنه في الأصل؛ العقل يمنع الإنسان من الإقدام على شهواته وهواه القبيح وينهاه من إلقاء نفسه بالمهالك، وكما قيل عند العرب: “إذا عقلك عقلُك عما ينبغي فأنت عاقل”.
وقد أسهب القرآن العظيم في بيان العقل ومكانته، ومكانة أصحاب العقول اللبيبة، وسفاهة من لا يعقل قدرات العقل المخلوق؛ أنه “كالأنعام بل هم أضل”.
وبين كتاب الله تعالى أن العقل هو اللب كما قال جل جلاله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190}) (آل عمران)، واللب كما هو معلوم هو العقل الخالص من الشوائب.
نعم.. وهذا العقل اللب خلقه الله تعالى مثل بصمة الأصابع في اليد، لا يتشابه مع غيره من عقل بأي شكل من الأشكال؛ فلذلك من أوج عقلانية العقل أن يعقل أن العقول يجب أن تتفاهم؛ ومن ثم تفهم منطقياً وفطرة عقلية؛ يجب عليها أن تتنازل وتلتقي على نقطة منطقية عقلاً يعقلها العقل، وأنه إذا لم تتوافق تلك العقول على ذلك؛ ستعم حينها فوضى عقلية ناقصة باسم العقل الكامل! فوضى قاتلة، وهي أشد أنواع الفوضى وهي الأشد قسوة على الإنسانية، فلذلك عقل الإنسان العاقل أنه لا بد من وجود أو صناعة قواعد عقلية تتفق عليها العقول من هنا وهناك لتلتقي على اتفاق يتم من خلاله تحييد نزغ الشيطان والهوى والشهوة.
إذاً العقل يتفق نعم ولكن لا يتشابه؛ لذلك أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام لأصحاب العقول اللبيبة التي لا تراودها الشوائب، ليبين لها ما هو فوق مستوى العقل المخلوق، ليسلم له عقلاً ومنطقاً، وإن هذا لا يترك للعقل المخلوق غير المتشابه في توجهاته وطبيعة تفكيره الخلقية والتربوية واستنباطاته الفكرية وخلفياته الثقافية، وتفاوت دقة إدراكاته المتفاوتة لينفرد بالأمور العقلية والمنطقية والإنسانية فوق العقلية ويتدخل فيها باسم العقل المستنير وما شابه.
والعقول التي تدرك أنها عقول مخلوقة من قبل رب خالق عليم معبود، تدرك أنها لا يمكن أن ترتقي وتكون نداً للمعبود؛ إلا إذا انتكس هذا العقل العابد المخلوق واستسلم لهواه وشهواته ظناً منه أنه يرتقي؛ وهو المنتكس حينها حيث جهل التمييز بين الخالق والمخلوق جهلاً كان ذلك أم قصداً؛ فلذلك أدرك العقل المخلوق الراقي اللبيب أنه لا بد من الاستسلام إلى من هو وما هو أرقى، وهو النقل الآتي من الخالق المعبود الحكيم نصاً للعابد المخلوق.