الدين والحضارة

كان الدين في ماضي الإنسانية هو الدرس الأول الذي تلقته على يد المعلمين الأوائل (الأنبياء)، لم يتلق الإنسان قبل الدين أي درس يقوده على طريق الحضارة، بل كانت حياته في إطار بشريته ضروباً من الفوضى التي عبرت عنها الملائكة حين أخبرها الرب الخالق بأنه {جاعل في الأرض خليفة}؛ {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}؛ فما كان البشر سوى كائنات والغة في الفساد والدماء، ومن ثم استبعدت الملائكة أهليتهم للخلافة في الأرض، وهي وظيفة سامية رفيعة القدر.

لكن إرادة الله قدرت أن يكون آدم بداية لدخول الإنسان إلى العصر الحضاري، وبدأت به الملحمة الإنسانية التي انقسمت خلالها المخلوقات إلى طائعين ومتمردين، مؤمنين وملحدين، كما استمرت هذه الملحمة حتى الآن، وإلى آخر الزمان، وهذا هو ما عبر عنه القرآن: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}.

فالدين منذ كان هو محور الصراع على هذه الأرض، صراع بين الطائعين والعاصين، بين الموحدين والمشركين الوثنيين، وعلى الرغم من أن الدين كان دائما يمضى في اتجاه واحد، هو اتجاه التوحيد- فإن الناس انقسموا في الدين على طوائف وشعوب وقبائل، لكى تتضخم مأساة الاختلاف على هذه الأرض، بين من يوحدون الله، ومن يجعلونه ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة، ثم بين هؤلاء ومن ينكرون وجود الله أصلا، وقد برز وجود هذه الاتجاهات في العصر الحديث، حين ظهرت الاتجاهات المادية، ومن أهمها وأخطرها: المذهب الماركسي، والمذهب العلماني، وهما متفقان في جوهر الموقف من الدين، فهما جبهة واحدة، ومتكاملة ضد الدين، على حين أن المتدينين لم يفلحوا في تكوين جبهة متحدة في مواجهة الإلحاد، بل إن قسماً كبيراً من الجبهة المتدينة أدار ظهره لجبهة الإلحاد، ربما اعتبرها جزءا من مكوناته، في حين تفرغ لمحاربة الإسلام، الذى هو الاتجاه الديني الحقيقي، وهكذا اشتعل الصراع بين الإسلام من ناحية، وبقية أقسام الإنسانية من ناحية أخرى.

ولسنا نبالغ إذا قلنا: إن الانتماء في أجيال الشباب الأوروبي قد اختفى غالباً، وغلب عليهم الاتجاه الإلحادي، رغم أن القادة -على المحور الغربي الأمريكي- يزعمون أنهم مسيحيون متعصبون أو أنهم منتمون إلى التحالف المسيحي الصهيوني، الذي يؤمن بحتمية الحرب بينهم وبين الإسلام، وما كانت الحرب ضد العراق إلا فصلاً من فصول الصراع.

ونعود إلى مرحلة الصراع بين الدين والإلحاد، في عصر ازدهار الشيوعية الماركسية، فقد أدرك حكماؤها أن من الضروري القضاء على الانتماء الديني لدى الشعوب المتدينة، وذلك بنشر الإلحاد الماركسي في أجيال الشباب، عن طريق المؤسسات التعليمية، وسارت على نهجها الحكومات الثورية في أنحاء العالم الثالث، واستبدلت تلك النظم بالدين وروحه الحضارية توجهات سياسية تضمن الولاء للثورة وزعيمها، ومن هذا المنطلق دخلت تلك النظم الثورية في معركة تصفية للتيار الإسلامي، بحيث يوصف الإسلاميون بالخونة، ويوصف الثوريون بأهل الثقة، حتى إذا تمت تصفية النظام الشيوعي، وسقط الاتحاد السوفييتي، وقع أعضاء الحزب الشيوعي أينما كانوا في مأزق، لأنهم فقدوا السند الأكبر، عندما انهار النظام في معقله، ولكنهم سرعان ما تقمصوا بقميص العلمانية، وهي الوجه الآخر للإلحاد الشيوعي، وبذلك بقي الثوريون في مواقعهم، يفرضون اتجاههم العلماني على المدارس والجامعات، بل ويفرضون إرهابهم السياسي على اتجاهات التعليم، ويبذلون كل ما في وسعهم لتفريغ التعليم من مضمونه الديني والأخلاقي، ولا غرابة أن نجد حماساً لدى بعض الجهات المؤثرة في التعليم، حين تتقدم المؤسسة الصهيونية الأمريكية بمطالبها التي تستهدف تفريغ التعليم -في البلاد العربية والإسلامية- من مضمونه الديني والأخلاقي، فسرعان ما تنتشر الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، أو تطويره، بحيث تحذف من الكتب المدرسية كل النصوص القرآنية التي تشير إلى العلاقات بين المسلمين وبنى إسرائيل، وكأن الصراع الإسلامي الصهيوني قد انتهى، وبذلك يجب أن تتم تصفية المقررات المدرسية من كل ما يتصل بتاريخ بني إسرائيل .

لقد رحب السياسيون بتلك الدعوة الأمريكية، لأن تلبيتها لن يكون على حساب الهيمنة السياسية على المجتمع، بل إن إخلاء المناهج من المعطيات الإسلامية هو في صالح السلطات الحاكمة، وكل ذلك يتم تحت شعار مكافحة الإرهاب، باعتبار أن كل مسلم هو مشروع إرهابي، أو هو قنبلة زمنية، ينبغي تفريغها من حشوها قبل أن تنفجر في مكان ما، وفي زمان ما، وبفعل عوامل مجهولة تتوقعها السياسات الاستعمارية الجديدة.

إن السياسيين العلمانيين المسيطرين على مقدرات التعليم في الشعوب العربية والإسلامية- يدركون تماماً أن سياساتهم لا يمكن أن تهزم الروح الإسلامية المتجذرة في طبيعة شعوبنا، والمتأصلة في كياننا المتدين.

صحيح أن روح التدين قد ضعفت، ولكنها سرعان ما تسترد عافيتها، وتعود سيرتها الأولى، عندما تدرك الشعوب أنها في مهب الخطر، وأن الغارة الراهنة تستهدف الإسلام الذي بنى لنا هذه الأوطان، وشيد لنا أقوى بنيان، ليصمد في وجه العاصفة.

ولقد تسلط العلمانيون على مؤسساتنا التربوية والثقافية والإعلامية، فما استطاعوا أن يقضوا على الروح الدينية، ولا أن “يعلمنوا” أي قطاع من هذه القطاعات.

بل إن اعترافاتهم بفشل محاولاتهم تشهد بها كل الكتابات الجادة التي تحاول الاقتراب من الحقيقة.

لم يعد أمامنا إلا أن نعود إلى محاولة بعث الروح الإسلامية في أجهزتنا الثقافية والتربوية والإعلامية، بعيداً عن عمليات تسييس التعليم، أو الثقافة أو الإعلام، فقد أفسدت السياسة كل شيء، حتى إنها أفسدت المؤسسة الدينية التي يفترض أنها مناط الأمل، فآل أمرها إلى الضعف والهزال.

الإسلام -يا سادة- هو باعث النهضة، وهو صانع التقدم، وهو روح الحضارة التي هي مشكلتنا الآن.

ارفعوا لواء الإسلام في وجوه أعدائكم، وفى مقدمة زحفكم نحو صناعة المستقبل، ولسوف يحقق الإسلام معجزة الغد المشرق، كما حقق معجزة الماضي المشرف، فلا حضارة بلا دين، ولتعلمن نبأه بعد حين.

 

___________________________

(*) المصدر: الموقع الشخصي للدكتور عبدالصبور شاهين على الإنترنت.

Exit mobile version