هل تؤرخ مظاهرات لبنان والعراق لنسخة ثالثة من “الربيع العربي”؟

يبدو أن مظاهرات لبنان والعراق تؤرخ لنسخة ثالثة من الربيع العربي أكثر نضجاً ووعياً، بعد النسخة الأولى التي انطلقت عام 2011 في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وجرى إجهاض أغلبها -ما عدا تونس- والنسخة الثانية التي انطلقت في السودان والجزائر، ولا تزال تحاول تحقيق مطالبها.

كان من الواضح في النسخة الثانية في الجزائر والسودان أن هناك نضجاً واضحاً من خلال الوعي بأهمية تجاوز العقبات التي عرقلت نجاح النسخة الأولى من التفاف على الإرادة الشعبية.

أما النسخة الثالثة في لبنان والعراق، فيبدو أنها “الأنضج”، لأنه لأول مرة ينسى أهل لبنان والعراق تركيبة بلادهم الطائفية التي زرعها الاستعمار لتسمح له بالتدخل واللعب بكل طائفة لتحقيق مصالحه، وينزل كافة اللبنانيين والعراقيين (باستثناءات قليلة) للمطالبة ليس فقط بإسقاط حكامهم ورحيل كل السياسيين ووقف الفساد، وإنما أيضاً الثورة ضد وكلاء الطوائف خصوصاً إيران، التي لم يكتف المتظاهرون العراقيون -ومنهم شيعة- بتغيير اسم شارع “الخميني” ولكنهم أحرقوا قنصلية إيرانية.

أهمية مظاهرات لبنان والعراق إذن أنها تظهر نضجاً أوضح، والوعي يتطور كثيراً لدى المواطن العربي؛ ففي العراق يهاجم متظاهرون -أغلبهم شيعة- مقر عصائب الحق، ويطردون زعماء شيعة موالين لإيران، وفي لبنان يتظاهر سُنة ضد الحريري، وشيعة ضد “حزب الله” ونبيل بري، ومسيحيون موارنة ضد الرئيس الماروني ميشيل عون.

ثورة لإسقاط الطائفية السياسية

الشعوب العربية باتت بالتالي في حالة ثورة لإسقاط الطائفية السياسية، ولم تعد هذه الطائفية وتقسيم المجتمعات العربية على أسس دينية وطائفية وعرقية وقبلية يعطل مطالب الإصلاح ووقف الفساد، والسعي لاستقلال وتحرير القرار المحلي لكل دولة عربية من الوكلاء الأجانب في الخارج.

‫فقد أدرك اللبنانيون والعراقيون بعد سنوات من الطائفية التي تتخذ شكلاً دينياً في بعض الدول أو مؤسساتياً (عسكرياً) أو طبقياً في أخرى أن عدوهم واحد وهو الاستبداد والقمع والفساد المتحالف مع الخارج، وأنه مستعد لتدمير البلد وقتل شعبها من أجل بقائه أو طائفته أو طبقته.

‫أدركوا بعد سنوات من الغزو الأمريكي للعراق وتفتيته والتغلغل الصهيوني هناك لسرقة خيرات شعبها عبر وكلاء زعماء الطوائف، وبعد سنوات من التشرذم الطائفي في لبنان والحرب الأهلية أن عدوهم واحد ينشر الخوف والجهل والفقر والانقسام ليبقى هو ولو على جثة الوطن، لهذا فهي ثورة تحرر حقيقية وستنتصر.

مظاهرات العراق هزمت الطائفية

الجانب الإيجابي في مظاهرات العراق الحالية أن الشارع العراقي قفز على حواجز الانقسامات الطائفية وتخطاها لأول مرة منذ غزو العراق عام 2003، بعدما تسببت المنظومة السياسية العراقية الطائفية التي زرعها الغزو الأمريكي في تفشي الفساد وتزوير الانتخابات.

لهذا سدّدت موجة الاحتجاجات التي شهدها العراق في الأسابيع القليلة الماضية، ضربة قوية للمنظومة السياسية القائمة في البلاد بعد عام 2013، وقوض لجوء الحكومة إلى العنف ضد المتظاهرين السلميين شرعية هذه المنظومة بقوة.

فقد فشلت الحكومات المتعاقبة في تلبية مطالب العراقيين في الوظائف وحتى الخدمات العامة في بلد مصدِّر للنفط يجري نهب خيراته، ولا يجد الشعب أي استفادة منه، ما أدى لاندلاع احتجاجات واسعة بعد انقضاء عامٍ واحد على الانتخابات الأخيرة.

وحين خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين، إلى شوارع بغداد والمدن الجنوبية منذ الأول من أكتوبر 2019، تعاملت معهم الحكومة بمثل ما تعاملت به كافة الحكومات الاستبدادية في دول “الربيع العربي” بالقتل حتى بلغ عدد قتلى الربيع العراقي حتى الآن نحو 260 قتيلاً.

لم تدرك الحكومة حجم غضب الشارع، وأن الفساد وانهيار الخدمات والفقر يطال الجميع شيعة وسُنة وأكراداً وغيرهم، ومحاولات رئيس الوزراء عبدالمهدي لإرضاء المتظاهرين الذين يطالبون الحكومة بالتنحي أساءت تقدير الموقف، ولم تدرك مدى غضب الشارع من الطبقة السياسية المتهمة بالفساد ونهب الدولة الغنية نفطيًا.

صحيح أن الوضع في العراق سائل، وهناك مخاوف من استمرار التدخل الإيراني وتدخل أصابع دول أخرى لنقل العراق لمرحلة جديدة من الخرب الأهلية الفوضوية هذه المرة، إلا أن العراقيين الذين نزلوا إلى ساحة “التحرير” -مثل المصريين وغيرهم- كانوا أكثر وعياً ويطالبون بتوحيد جميع القوى السياسية الرئيسة لتشكيل حكومة انتقالية لفترة مؤقتة تنتشل البلاد من الوضع الراهن، وخلال تلك الفترة يجري تعديل القانون الانتخابي.

فمنذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وإفرازه نظاما طائفيا عميقا أقصى سنة العراق وهمشهم كما همش الشيعة والأكراد وطوائف أخرى لصالح مجموعات متحالفة طائفياً مع طهران، ظهر فشل النظام السياسي.

فقد حاول العرب السُّنة في العراق وضع حد لهذا النظام لكنهم فشلوا، وحاول الأكراد وفشلوا ما دفعهم للمطالبة بالاستقلال عن العراق وفقد السُّنة والأكراد الثقة تمامًا في قيادتهم السياسية الشيعية التي تقود الحكومة.

وما يميز المظاهرات الحالية أن الأجيال الشابة لم تعد تعول على الأحزاب السياسية والقيادة، وبدلًا من ذلك لجؤوا بشكل مطرد إلى النقابات المهنية للتعبير عن آرائهم، كما أن المظاهرات اندلعت من محافظات العراق الوسطى والجنوبية، التي كانت عادة مراكز دعم للنفوذ الإيراني في البلاد، وهو تطور لافت ومؤشر على رفض الهيمنة الخارجية باسم الطائفية.

ولم تفتر عزيمة المتظاهرين رغم رد قوات الأمن على المظاهرات بعنف، بل وانضمت مناطق العراق الجنوبية والوسطى للمظاهرات، وزادت الأحداث سخونة مع ظهور معركة شيعية شيعية؛ حين أحرق المتظاهرون الشيعة مقار ومكاتب الأحزاب السياسية الشيعية والجماعات المسلحة الشيعية المتحالفة مع إيران.

وكان من الطبيعي ما دام هناك جانب من المظاهرات يبدو مضاداً لإيران أن تسعى قوى إقليمية ودولية لها مصلحة في استمرار المظاهرات للتدخل لاستغلال الأحداث، وصبت الزيت على النار، فوظفت آلتها الإعلامية لخدمة هذا الظرف.

أين السُّنة والأكراد من الثورة؟

شهدت سنوات عدة منذ التدخل العسكري الأمريكي في العراق مظاهرات واحتجاجات داخل المناطق السُّنية والكردية ضد هيمنة قوى وأحزاب شيعية مرتبطة بإيران، واستحواذها على الحكم، وتعرض السُّنة خصوصاً لعمليات قمع غير مسبوقة.

لهذا كان من الطبيعي في ثورة العراق الحالية أن تكون الطوائف السُّنية في العراق حذرة من مشاركتها في الاحتجاجات، خصوصاً أن خصومهم غالباً ما يحاولون تشويه تحركهم بالزعم أنهم يتبعون أجندة حزب البعث أو “تنظيم الدولة” (داعش) في العراق والشام.

لهذا كان تحرك السُّنة أكبر في المناطق الشيعية وفي العاصمة بغداد خصوصا، مع باقي الطوائف والقوى السياسية بلا تفرقة بينهم.

فالجميع يخشى أن تتكرر خيبة أمل “الربيع العربي” في العراق، حيث تخضع المنطقة للسيطرة الإيرانية والأمريكية -والتركية أيضاً- ولم تخدم المعارك الداخلية العربية إلا مصالح إيران و”إسرائيل”.

والمشكلة الكبرى أنه حتى لو استقال رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي المحسوب على الأحزاب الشيعية القريبة من إيران، الذي تسلم منصبه في 25 أكتوبر 2018، مرغماً، فلن تحل المشكلة ما لم يجر تغيير المنظومة الطائفية التي تحكم البلاد.

والمشكلة الأخرى أن العراقيين ثاروا أيضاً بسبب التزوير الانتخابي؛ فمن يضمن ألا يتم تزوير إرادتهم في الانتخابات المقبلة أيضا؟ ثم كيف ستحل مشكلة توزيع المناصب الطائفية؟ وهل سيقبل من خرجوا بـ”ربيع عربي” بنسخة ثالثة ضد الطائفية أن يحتكموا لانتخابات قائمة على نفس الأسس الفاسدة، ويعود نفس الشخصيات الطائفية؟

مظاهرات لبنان تحطم حاجز الطائفية

الحراك الشعبي الذي يعيشه لبنان بدوره فريد من نوعه، فلأول مرة تخرج مظاهرات من مختلف الطوائف تنادي برحيل النخبة السياسية وإنهاء المحاصصة الطائفية وترفع شعار “كلن يعني كلن”، دون أن تستثني أحداً من القيادات المسيحية والسنية والشيعة والمارونية وغيرها.

فإسقاط النخبة وإنهاء المحاصصة الطائفية كان مطلباً موحداً للجميع، ولتجنب التقاسم التقليدي داخل المجتمع الذي يمكن أن يقوض الحركة الاحتجاجية، ركزت كل مجموعة بذاتها على إسقاط الأنظمة السياسية القائمة في مناطقها.

فالسُّنة مثلاً في شمال لبنان يمزقون صور رئيس الوزراء سعد الحريري، والمسيحيون يحرقون ملصقات الرئيس الماروني ميشال عون، والشيعة يهاجمون “حزب الله” وحركة أمل الشيعية التي ينتمي إليها رئيس البرلمان نبيه بري.

وبات شعار “كلن يعني كلن” (كلهم يعني كلهم) الذي ينادي المتظاهرون به منذ أيام بهدف إسقاط النخبة السياسية الحاكمة بأكملها لا يخالف شعار “الربيع العربي” في نسختيه الأولى والثانية “الشعب يريد إسقاط النظام”.

فبموجب النظام السياسي في لبنان، توزع المناصب السياسية العليا وفقاً للطائفية، وهو ما أدى إلى نظام من المحسوبية تمكن السياسيون من استغلاله ببراعة.

يبدو أن “الربيع العربي” لم ينته بعد، وروحه لا تزال مستمرة، كما قال تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” البحثية الأمريكية، وأنه رغم تصور الحكام الديكتاتوريين أنهم باقون، فإن ظهور موجات جديدة من الاحتجاجات كل بضعة أشهر، يثبت أن هذا الحراك الشعبي الذي بدأ قبل ثماني سنوات لا يزال ملتهبا، ولن ينتهي قريبًا.

Exit mobile version