الشائعة.. مسارات خطورتها وسبل مواجهتها

الإنسان هو المخلوق الذي ميَّزه الله تعالى وكرمه على كثير من خلقه، وأسجد له ملائكته المقربين، ولم يكن النطق هو المعتبر في تكريم الله للإنسان؛ بل كان العقل هو الذي عليه الاعتبار في الإسلام، فهو الذي عليه مناط التكليف والمؤاخذة، فنطق الإنسان لا قيمة له إذا فقَدَ عقله، من هنا كان الارتباط بين عملية الكلام الصادر ممن له عقل هو الذي عليه الوعد والوعيد، والجزاء والحساب، والحسنة والسيئة.

في توجيه كريم من نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته يقول: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»(1)، وحين تعجب معاذ رضي الله عنه من أمر النبي بحزم اللسان قائلاً: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»(2).

إذاً، فاللسان عليه نجاة الشخص وهلاكه، فبه يقول الخير، وبه يقول السوء، من أجل هذا وضع الإسلام ضوابط لا تقبل التأويل في ضرورة التنبه لخطره وكبحه عندما ينزلق بصاحبه.

في الدولة الناشئة؛ دولة النبوة، ظهر قسم كبير من أقسام الناس قال الله تعالى فيهم: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (الفتح: 11)، وكانت خطورة اليهود أهل الكتاب أيضاً منبعثة من ألسنتهم، وكانت خطورة المتربصين بالدعوة في ألسنتهم بمثل خطورة أسنتهم، وكان الإرجاف عملاً اتبعه المنافقون كعمل جماعي يقومون به، وكان له مسالك شتى منها:

المسار الحربي:

في غزوة «أحد»، طارت بين المسلمين إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فخارت نفوس بعض المحاربين من المسلمين، وجلسوا ينتظرون المصائر المحتومة، وفكَّر بعضهم في الاتصال بابن سلول، حتى مرَّ أنس بن النضر بهم وقال لهم، وهم يرددون إشاعة مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله»(3)، وأمام هذه الإشاعة، وقف النبي صلى الله عليه وسلم في وسط المعركة مخاطراً بنفسه ينادي أصحابه يعيد إليهم نفوسهم التي تهاوت، حتى لقد خلص المشركون إليه قبل أصحابه.

ولم يختلف الأمر في غزوة «الأحزاب» عنه في «أحد»، فقد أصبحت المدينة محاطة بأعدائها الخارجيين والداخليين، وانطلقت الإشاعة تأكل نفوس الأفراد؛ (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً) (الأحزاب: 13).

وهكذا في مسارات عديدة كادت الإشاعة أن تكون سلاحاً فتاكاً يعصف بالدولة وبنظامها، وربما كانت سبباً في هزيمة فادحة.

مرت الأزمنة، وتعرضت الأمة لنكبة بالغة حين اجتاحها التتار، وكانت الشائعات بأن جيش التتار لم ينهزم قط تنتشر في كل مكان، وتغزو الأفئدة باليأس، فترجَّل قطز، وألقى على الأرض خوذته وصاح بصوت رهيب: «وا إسلاماه!»، وهجم بمن معه؛ فإذا الأرض تتزلزل تحت أقدام المغيرين، وإذا هم يولون الأدبار(4).

أي خسارة كان يمكن للأمة أن تدفعها لو استسلم جند الشام ومصر لهذه الشائعة، وألقوا ما بأيديهم، وانتظروا مصيرهم المحتوم المحكوم بإشاعة مغرضة، وسقطت مصر في يد التتار؟!

الشائعة والمسار الفكري:

الفكر به قيام المجموعات البشرية قاطبة، والأفكار هي المحرك الرئيس للأمم، وما تحركت جيوش إلا بعد أن عبَّأت أفكار الشعوب والجنود لسمو الغاية التي يتحركون لها، لقد واجهت الدعوات النبوية قاطبة الشائعات الفكرية، بل لقد كان من كثرة ما لاكه كفار مكة من الأقاويل، أن كان بعض الداخلين إليها زمن البعثة يضع القطن في أذنيه! حتى لا يسمع الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم، كما حدث للطفيل بن عمرو(5)، وكانت الحال مع ضماد الأزدي قريبة مما وقع لعمرو رضي الله عنهما(6).

لقد سارت الشائعات الفكرية طوال فترة الدعوة تتحدث عن أفكار صاحب الدعوة، وأنه جاء ليفرّق بين المرء وزوجه، ويقطع الصلة بين الابن وأبيه، ويوهن علاقة القبيلة الواحدة، ثم تناول المغرضون الوحي بأحط ما يمكن الوصف، وجاءت الآيات القرآنية ترد على إفكهم، واتُّهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكهانة، والسحر والجنون، واتُّهم قوله بأنه شعر وضرب من أقاويل الكهان.

إن أي فكرة سامية يمكن للمتربصين بها أن يشوّهوها بإطلاق الشائعات على أصحابها، أو على الفكرة ذاتها، فإذا صادفت أغراراً أو قلوباً مريضة؛ تحولت الشائعة من محض الاختلاق والبهتان إلى حق اليقين، ولهذا كان على أرباب الحق أن يستعدوا لهذا التربص، وأن يوقنوا أن سُنة التدافع قاضية بألا يترك المرجفون الحق يسري بين الناس.

يقول الشيخ الغزالي: «إن سماسرة الاستعمار الثقافي تستغل فقر العلم والخلق عند بعض الناس، وتطلقهم في أرجاء العالم الإسلامي ليقطعوا أوصاله بالخلافات اليسيرة والشائعات الكذوب، وهكذا تكثر العثرات والعوائق أمام دعاة الإصلاح»(7).

والشائعة الفكرية تأخذ مسارين:

فقد تتناول صاحب الفكرة، وتجعل منه غرضاً حتى تسقط بسقوط الفكرة التي يحملها.

 وقد تتعرض الفكرة ذاتها، فتسمي الأشياء بغير مسماها، فتقبّح الحسن أو تحسّن القبيح، وفي الحديث: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها»(8).

وتحت مسميات الحرية، وإعمال العقل، ونبذ التقليد يتعرض بعضهم لليقينيات الدينية التي لا يجوز إخضاعها لهذه الموازين، فيطلق شائعة حول المسلّمات ليجعل منها بناء هشاً في نفوس المكلفين.

الدور المنشود:

الإنسان السوي هو الذي لا ينساق خلف كل ما يأتيه من هنا أو هناك، وفي الصحيح: «بحسب المرء من الكذب أن يحدّث بكل ما سمع»(9)، كما أن كبح اللسان مما يجب على المسلم، فإن لذة ترديد الكلام وشهوة الوقوع في الناس وترديد الأكاذيب أحياناً تحجب عقل الإنسان، وإطلاق اللسان لا يكلف صاحبه شيئاً، ولا يتعبه، «ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيّده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله، وعِلْم ما يُحمد فيه إطلاق اللسان أو يُذم غامض عزيز، والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير»(10).

إن بعض الشائعات التي تخترق جوانب المجتمع لتضر بمؤسساته ضرراً بالغاً، فالشائعة الاقتصادية تضر بأصحاب الشركات، وتلحق بأعمالهم وعمالهم البوار، وما دامت الرقابة الذاتية ضعيفة استحل صاحبها أن يضر بالآخرين، ويؤثر على رواج سلعهم، وفيه ما فيه من نقض لضرورة من ضرورات الإسلام الخمس.

كما تهجم الشائعة على العرض، وذلك إذا استحل صاحبها الأعراض، وولغ بالظن في الطاهرين، فساق الكذب وروج الإفك.

أما ضرر الشائعة على الدين الذي يحرم التطاول على الناس، واستحلال أموالهم، فقد سلم بالدين وحدوده بعضهم، لكن الدين لم يسلم منهم ومن تخرصهم عليه بالكذب، إذ يشاع على الدين أنه سبب التخلف الذي حاق بديار المسلمين، وأن به من التعاليم ما يتوافق وزمن البداوة، وأن حدوده تجاوزها الزمن، وهي شائعات تتردد على ألسنة تريد أن تنحيه عن دائرة الحياة.

وإذا كان من الواجب على الإنسان السوي الذي يتخلق بأخلاق الإسلام ألا يردد الشائعات، فإن الأمر يسبق هذا بألا يجعل من لسانه أو عقله مخترعاً للشائعة، أو مفترعاً لبكارتها، وذلك يكون بتغليب إحسان الظن، وترك ما لا يعنيه من أمور الناس، وأن يجعل من هموم مجتمعه هموماً له، وأن يكون سؤاله لأهل الاختصاص في كل ما يعنُّ له، وأن يعلم أن الحق إذا كان لا يتضاد، فإنه قد يتنوع وتتفرع مسالك الوصول إليه.

أخيراً، يجب الاهتمام بإزالة الأمية، وتضييق نطاقها، فإن الأمية تلغي التفكير النقدي لدى الأشخاص، فتجعل العواطف وحدها هي المتحكم في تلقِّي الأخبار، والعواطف والأهواء أكبر معين لحدوث الشائعة وتعزيز انتشارها.

 

____________________

الهوامش

(1) البخاري برقم (6474).

(2) الترمذي برقم (2616)، وقال: حسن صحيح.

(3) «الرحيق المختوم»، ص 200.

(4) الحق المر، ص 24.

(5) الروض الأنف (3/ 227).

(6) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ص 235.

(7) الحق المر، مرجع سابق، ص 75.

(8) أخرجه أبو داود (3688)، وصححه الألباني.

(9) أخرجه مسلم برقم (5).

(10) إحياء علوم الدين (3/ 108).

 

 

(*) أستاذ العقيدة المشارك بجامعة المدينة العالمية

Exit mobile version