البرمجة اللغوية العصبية.. بين الحقيقة والوهم

إن الامتزاج الذي يُقدمه الاسم كافٍ للكشف عن ماهية البرمجة اللغوية العصبية، فتشير كلمة البرمجة إلى الأفكار والمعتقدات والمشاعر، في حين تُعنى كلمة اللغوية باللغة المنطوقة وغير المنطوقة من حركات للجسد والوجه والعين، وتضم كلمة العصبية التجارب الكامنة في الجهاز العصبي التي جرى نقلها بالحواس الخمس.

بدأت الحياة في هذا المفهوم في السبعينيات من القرن الماضي، حين التقى “ريتشارد باندلر”، طالب الرياضيات وخبير الحاسوب ومؤسس علم البرمجة اللغوية العصبية، مع أستاذه “جون جريندر”، عالم اللغويات، وبدأا معاً بوضع الأسس الأولية لهذا المفهوم، متأثرين بنخبة من علماء عصرهما(1)، والجدير بالذكر أن هذا المفهوم هو خليط انتقائي يضم فروعاً من علومٍ متعددة، مثل علم النفس التجريبي والسلوكي والإدارة وعلوم التنمية البشرية الأخرى.

ويرى أصحاب هذا العلم أنه علمٌ يدرس كيفية تواصل الناس مع أنفسهم بصورة تؤدي لتحقيق الأوضاع النفسية المثلى، وتوليد أكبر عدد من الخيارات السلوكيات المنشودة، وبث روح السيطرة على طريقة التفكير، بل ويتجاوز ليصل إلى الأهداف المنشودة.

في حين يقوم هذا المفهوم على جملة من الافتراضات والأدبيات؛ أولها أن الخريطة ليست الحدود؛ التي تعني أن الذي تُدركه ليس بالضرورة هو الحقيقة، وهذا من شأنه أن يدفعنا إلى التغيير، ومن افتراضاته أيضاً أن جودة الاتصال عائد لنوعية الاستجابة التي تتلقاها أثناءه، أما الافتراض المتعلق بالواعي واللاواعي فينص على أنه يتم الاتصال على مستويين الواعي واللاواعي، وفي الخصال الشخصية يتسم الافتراض بأن الشخص الأكثر مرونة هو الأكثر سيطرة في حياته وعليها، وتفترض البرمجة أن الماضي بالنسبة للفرد ما هو إلا تجارب؛ لذا ترى افتراضاً ينص على أنه لا وجود للفشل، إنما الحياة مجرد تجارب، فضلاً أنها تفترض في عالم النجاح أن ما يحققه شخص ما ناجح، فإن أي شخص آخر قادر على تحقيقه، وتمتد قائمة الافتراضات لتصل إلى حوالي أربعة عشر افتراضاً.

وعلم البرمجة كغيره من العلوم لديه آلياتـه وأساليبه تخدم غاياته وتكفل الوصـول إليه، ولعل أبسطها أن تبدأ بالسيطرة على الكلمات؛ فالكلمات المنتقاة بعناية التي تحمل المعنى من شأنها بث برمجة جديدة، وإحداث تماثل كامل لواقع جديد، ومن جملة الأساليب الأكثر ذكاء “المحاكاة”؛ وهي تعليمات تستنسخ عن كيفية عمل الشخص الذي بلغ أرقى مستوى المهارة والفاعلية والسعادة، ومن ثم نقلها وتطبيقها بكل دقة على شخص آخر، بدءاً من حركات الجسد وإيماءات الوجه والصوت والعيون.

ومن الآليات أيضاً الرابط الذي يعد كتذكرة للولوج لعالم السعادة، وينص على استحضار المشاعر الإيجابية ذهنياً، وفي الوقت ذاته القيام بحركة جسدية بسيطة تدعى الرابط؛ مثل ضم اليدين معاً، أو الضغط بإحدى اليدين بطريقة ما، عندها تنشأ جملة عصبية، ومع التدريب يصبح استحضار هذه الجملة العصبية الجديدة أمراً سهلاً، فكلما قمت بالرابط أي حركة اليد؛ سوف تستحضر المشاعر الإيجابية المرتبطة، وما زال عِقد الوسائل في علم البرمجة اللغوية العصبية أكثر من ذلك، ولكن هذا ما تيسر الإشارة إليه.

دراسات نقدية

من ناحية أخرى، يطول حبل النقد المُلتف حول عنق هذا العلم، وأول انتقاد جاء من أبو العلم ومؤسسه “ريتشارد باندلر” حين حُكِم في حقبة الثمانينيات بجرائم عدة، أولها القتل والاتجار بالمخدرات والقوادة، فتلك جعلت أصابع الاتهام بأن صاحب العلم بات لا يستفيد منه.

وذهاباً إلى النقد العلمي، ففي إحدى المرات علق “د. روبيرت كارول” قائلاً: إنه من الصعب تعريف البرمجة اللغوية العصبية؛ لأن الذين بدؤوها وساهموا في إخراجها استخدموا لغة غامضة غير واضحة(2).

وأضاف “د. توماس منيكومسكي”، العالم البولندي(3)، نقداً آخر، وهو الذي تتبع الدراسات خلال الـ35 عاماً الماضية، التي تطرقت للبرمجة اللغوية العصبية من خلال البيانات التي أنشأها مؤيدها، وخلص إلى نتيجة مفادها أن 18% من هذه الدراسات فقط لها فائدة عملية، وأكمل مشوار النقد “د. مايكل هيث”(4)، عالم النفس السريري، حيث قام بتقييم ما يزيد على 70 بحثاً، وانتهى به القول: “إن البرمجة تفتقر إلى الأدلة الموضوعية لإثبات ادعاءاتها؛ فالبحث العلمي المقدم من هذه البحوث فشل في دعم فرضياتها”.

ولم تقف حدود النقد عند هذا الحد، بل تجاوزت لتصل الافتراضات والآليات، ومما يذكره علماء النفس أن الافتراضات التي تطبقها البرمجة اللغوية العصبية وتُدرب عليها؛ تُعامل معاملة الحقائق، وهي في الواقع لا ترتقي لمستوى النظرية، بل أن بعض الفرضيات كفرضية “الأنماط التمثيلية” السمعي، والبصري، والحسي، التي تنص على أن لكل إنسان نظامه التمثيلي، ما هي إلا مجرد افتراضات لا تدعمها البحوث، وهذا ما توصل إليه عالم النفس والأستاذ بجامعة شيفيلد البريطانية “مايكل هيث”، أن البحث فشل في دعم هذه الفرضية(5).

خلاصة

على كل حال، ومن باب الإنصاف، سنرى أن هناك حالات استفادت من علم البرمجة اللغوية العصبية، لذا فإننا نقول: إن علم البرمجة هو علم انتقائي وحيادي وحياتي، لكنه لم يصل لمرحلة النضوح والكمال، بل ما زال يعتمد على علوم أخرى، ومن جانب آخر، فما زال يعتمد على الافتراضات التي في كثير من الأحيان لم يتم إثباتها علمياً ولا جدواها العملي، وعليه؛ فإن البرمجة تحتاج للمزيد من القص والتهذيب والزيادة والبحث لتصل إلى ما هو مرجو، وتكون طريقاً معتمداً يخلو من العثرات.

 

_________________________

الهوامش

(1) ميلتون اريكسون: مبدع في علم التنويم وتقنيات الخروج من العقل الواعي، فرجينيا ساتر: المعالجة الأسرية الداهية في مجال التأثير على الآخرين، فرند بيولد: معالج تقنية الجشطالت.

(2) كتاب حقيقة البرمجة اللغوية العصبية (فوز كودي).

(3) د. روبرت كارول أستاذ الفلسفة الناقد بكلية ساكرمنتوا بكالفورنيا بأمريكا.

(4) مقال بعنوان “هل البرمجة اللغوية العصبية علم زائف فراس عالم”، جريدة الشرق، بتاريخ 12/2012.

(5) عالم النفس السريري الأستاذ بجامعة شيفيلد بالمملكة المتحدة.

 

(*) خبير التدريب والتنمية البشرية.

Exit mobile version