‎تنمية الذات.. بين العلم والخرافة

كل علم أو فن أو أي شأن حياتي يوسد إلى غير أهله وغير الخبراء الحقيقيين والمؤهلين له يتحول إلى تهريج يشوّه نظرة الناس الإيجابية إلى العلم أو الفن، وهذا الوباء انتقل إلى عالم التنمية البشرية، ودورات تطوير الذات، عندما اكتسبت هذه الدورات الطابع التجاري البحت، ودخل هذه السوق بعض المستعجلين من هواة النجاح السريع والأرباح السريعة على طريقة: كيف تجيد اللغة الفلانية في ثلاثة أيام؟ أو كيف تصبح مليونيراً في أسبوع؟ وفي لمح البصر، تحول بعض المتدربين إلى مدربين دوليين دون بذل أدنى الجهد في تحصيل العلم والمهارة والمثابرة على اكتساب الكفاءات والمهارات والقدرات والمعارف النظرية؛ من علم النفس، وعلم الاجتماع، ونظريات المعرفة والدين والفلسفة التي توفر الرؤية الشاملة لطبيعة النفس البشرية والسلوك الإنساني.

‎وكان ظهور هؤلاء الأدعياء من الأسباب الأساسية لتبلور نظرة سلبية حول علم التنمية البشرية وتطوير الذات، والنظر إليه باعتباره بيعاً للأوهام والخرافات، وكبسولات تخديرية ينتهي مفعولها بعد الخروج من الدورة.

‎وهذه النظرة تتضمن الكثير من الظلم لهذا العلم الأصيل في التعامل مع السلوك البشري الذي لا يستغني عنه أحد للتغلب على الكثير من المشكلات المعقولة التي تواجهنا في حياتنا، فجميعنا نحتاج إلى تعلم كيفية إدارة أوقاتنا، ومعالجة بعض المشكلات النفسية والسلوكية، والتغلب على بعض نقاط الضعف في شخصياتنا وتنمية نقاط القوة، ولكن عندما يتصدر لهذه المشكلات بعض المتاجرين والأدعياء، وتدخلها المبالغة والتهويل «لزوم التسويق التجاري»؛ تتراجع النظرة العلمية التقديرية لهذا العلم، وتهيمن النظرة السلبية الشعبوية.

ومن هنا، تأتي أهمية التمييز بين أصحاب المهنة الذين بذلوا الجهد في التحصيل العلمي والمهاري، واكتسبوا الخبرة عن جدارة، ويحترمون القواعد الأخلاقية في تقديم الخدمات التدريبية؛ والدخلاء على المهنة.

التنمية الذاتية.. وإفساد النفس بالغرور:

وهناك إشكالية أخرى في هذا المجال، تتمثل في انحراف أساليب تقدير الذات التي تتحول إلى تضخيم لـ«الأنا»، ونرجسية متعالية، وغرور ناتج عن التشبع بأوهام تدمر النسيج القيمي والأخلاقي، وتجعل الفرد يفقد التوازن الفكري والنفسي؛ فيندفع نحو التطرف في النقد والتجريح للآخرين، ويتمرد على الثوابت بدون منهجية راسخة، ويستهتر بتراكم رأس المال المعرفي الذي راكمته جهود جبارة لعلماء أفذاذ أفنوا حياتهم في البحث والطلب، ولا نزعم لهم العصمة، ولكننا في الوقت نفسه نرفض تبخيس جهود علمائنا، وأي جهود علمية نافعة لعلماء مسلمين أو غير مسلمين يجب احترامها، وعدم بخس الناس جهودهم والاستخفاف بقدراتهم.

ولهذا الموضوع شواهد كثيرة، ما زلت أذكر منها أن أحد المدربين انتقد ضعف علماء الأمة السابقين في قدرة التحليل لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، مشيراً إلى أنه استنتج فكراً متميزاً بمتابعته لبعض الأحداث التي مر عليها العلماء السابقون مرور الكرام، وضرب مثلاً على مكوث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار قبل بعثته؛ ليربط ذلك بعلم الطاقة الذي يدرب فيه، ليكون جمع الطاقة بهذا الشكل مؤدياً للنبوة!

عدم تقدير مستوى المتلقين

فالمشكلة أن بعض المدربين لا يقدرون عقول المتلقين ونفسياتهم وقيمهم الأخلاقية والفكرية، فيساهمون في إفسادهم بغير قصد بتنمية النزعة الذاتية التي تتحول من تقدير إيجابي للذات إلى نرجسية مرضية تمارس التعالي والكبر والغرور، وتستهتر برأس المال الفكري والمعرفي والثقافي للأمة الذي حافظ على هويتها وثوابتها وشخصيتها المستقلة. 

وبلغ الغرور بالبعض إلى التطاول على الصحابة الكرام، والتخبط في متاهات الشطط الفكري والتجرد من القيم والمبادئ، والتمرد على الأخلاقيات والتعاليم الإسلامية؛ كالحجاب، والأخوة، وروح التضامن مع الآخرين، وعدم الاكتراث بالشأن العام وهموم المسلمين، والانغماس في إشباع الرغبات الفردية ولو على حساب الآخرين.

تلك المناطق التي يَحْذرُ علماء الأمة الكبار من المساس بها لما لها من قدسية الثوابت في الشريعة -وذلك لم يأتِ اعتباطاً وإنما احتكام واستنباط علمي قائم على الدليل- أصبحت مرتعاً لبعض بسطاء العلم والفكر من المدربين، يستمتعون بروح الإثارة التي يرون آثارها في عيون المتدربين وهم يطرحون آراء شاذة هادمة للثوابت. 

خطر الإلحاد والانحراف

وفي بعض دورات التنمية الفكرية غير المنضبطة بالمنهجية العلمية، تصل الحال ببعض أصحاب العقليات غير الناضجة إلى الإلحاد؛ نتيجة عدم التفريق بين الشك المنهجي الموصل إلى اليقين، والشك العبثي المنفلت الذي يقود صاحبه إلى الضلال والانحراف.

إن هذه الظواهر السلبية التي ترافق بعض برامج تطوير الذات تؤكد الحاجة الماسة إلى مراجعة مناهج التنمية الذاتية على ضوء قيمنا الإسلامية، وخصائص الشخصية الإسلامية ومقوماتها، وعلى ضوء نظرية المعرفة الإسلامية، مع ضرورة احترام خصائص النمو والفروق الفردية عند تنزيل المادة التدريبية على المتدربين، وترسيخ قيمة التخصص العلمي، وخاصة فيما يخص العلوم الشرعية التي قد يؤدي ضعف الملقي أو المتلقي فيها إلى سلوك طرق منحرفة لا تُحمد عقباها، ولا بد من التركيز على أهمية التوازن بين تنمية حب الذات وتنمية حب الآخرين؛ حتى لا تتضخم الأنا الفردية بصورة تُلحق الضرر بالفرد في الدنيا والآخرة.

 

 

___________________________

(*) مدرب ومستشار تربوي.

Exit mobile version