“العدالة والتنمية” التركي وأزمته الداخلية

مع تقديم رئيس حزب العدالة والتنمية السابق، رئيس الوزراء الأسبق، «أحمد داود أوغلو»، استقالته من الحزب، يكون قد أغلق الباب على التخمينات المتعلقة بمساره المستقبلي، ليفتح الباب على أسئلة وعلامات استفهام بخصوص مستقبل العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ عام 2002م.

لم يكن «داود أوغلو» أول المستقيلين من العدالة والتنمية ولا آخرهم، لكن قصة استقالته كانت الأكثر جذباً للاهتمام، فقد استقال قبله نائب رئيس الوزراء الأسبق لشؤون الاقتصاد ومهندس نهضة تركيا الاقتصادية «علي باباجان»، ووزير العدل الأسبق «سعد الله أرغين»، كما استقال بعده عدد من القيادات الحزبية الوسيطة وخصوصاً من الكوادر الحزبية النشيطة والشابة، إضافة لإلغاء مئات الآلاف من الأنصار عضويتهم في الحزب، وفق بعض التقارير؛ احتجاجاً على واقع الحزب الحاكم وخطابه وسياساته.

كانت استقالة «باباجان» متوقعة إلى حد كبير، حيث يُعرف عنه أنه يلتقي منذ أشهر بشكل دوري مع عدد من القيادات الكبيرة سابقاً في العدالة والتنمية، مثل «أرغين»، ووزير الداخلية الأسبق «بشير أتالاي»، ونائب رئيس الحزب الأسبق «حسين تشيليك»، وآخرين، للترتيب لتأسيس حزب جديد، بدعم من الرئيس السابق «عبدالله جول».

أما «داود أوغلو» فقد بقي في صفوف العدالة والتنمية بعد استقالته من رئاسة الحزب والحكومة عام 2016م، رغم أنه لم يضطلع بأي دور حزبي أو حكومي منذئذ، ورغم ما يُعلم من معارضته لمواد الاستفتاء الشعبي الذي أتى بالنظام الرئاسي للبلاد والكثير من السياسات المطبقة بعده.

إلا أن الانتخابات البلدية في مارس 2019م، التي تراجع العدالة والتنمية نسبياً فيها، شكلت منعطفاً حاداً أدى لخروج الكثير من الانتقادات للعلن ووسائل الإعلام.

في أبريل الماضي، أصدر «داود أوغلو» بياناً مطولاً أسماه «المانيفستو»، شمل انتقادات مفصلة للعدالة والتنمية وواقعه الحالي فكراً وقيماً وممارسة وتحالفات، فضلاً عن مسار تطبيق النظام الرئاسي، والتعامل مع الأزمة الاقتصادية، وآليات العمل واتخاذ القرار داخل الحزب، ورغم حدة انتقاداته وشمولها لمجالات عدة، فإنه (داود أوغلو) ركز على فكرة النقد الذاتي والإصلاح الداخلي، مستخدماً مصطلحات من قبيل «نحن» و«حزبنا».

لكن استمرار «أوغلو» بانتقاداته ورفع سقفها بالتدريج، ثم تحويله من قبل لجنة الحزب المركزية للجنة التأديب فيه، دفعاه لتقديم استقالته استباقاً للإقالة مع تلميح واضح لنيته تأسيس حزب جديد.

الأسباب

تراكمت عدة أسباب على مدى سنوات حكم العدالة والتنمية الـ17، وخصوصاً في السنوات القليلة الأخيرة، لتصنع فجوة كبيرة بين «أردوغان» من جهة، وعدد كبير من القيادات السابقة وبعض رفاق الدرب، من جهة أخرى.

بدأ الأمر بنظام الحزب الداخلي الذي يحظر بقاء أي قيادي في منصبه أكثر من ثلاث مدد متتالية؛ الأمر الذي ألقى بظلاله وأخرج عدداً مهماً من المؤسسين والقيادات الأولى للحزب خارج دائرة اتخاذ القرار والمناصب التنفيذية، لكن الأمر تفاقم بشكل غير مسبوق خلال السنوات القليلة الأخيرة؛ بسبب الأزمات المتلاحقة التي واجهها الحزب وتركيا خلالها، التي أدت لترسيخ زعامة “أردوغان” للحزب من جهة، وتوسّع هوة الخلاف بينه وبين مجموعة من القيادات السابقة، من جهة أخرى.

يأتي في مقدمة هؤلاء الرئيس السابق “عبدالله جول” الذي بقي -أو بالأحرى أُبقي- خارج دوائر الحزب بعد انتهاء فترته الرئاسية عام 2014م، ثم استمر الأمر مع عدد آخر من القيادات، كما أن استقالة “داود أوغلو” من رئاسة الحزب عام 2016م بعد تعرضه لحملة تشويش وتشويه أتبعت بـ”تطهير” الحزب من القيادات المحسوبة عليه، ثم ألحق ذلك بعملية التجديد داخل الحزب بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تخللها إقصاء المحسوبين على “داود أوغلو” كذلك.

ومع تمركز الصلاحيات أكثر بيد “أردوغان” بعد بدء تطبيق النظام الرئاسي، الذي كان بدوره أحد أهم أسباب الخلافات بين “أردوغان” والمعارضين له -لا سيما جمعه بين منصبي رئاسة البلاد ورئاسة حزب العدالة والتنمية- بدا أن إمكانات التلاقي تتراجع أكثر فأكثر لصالح الافتراق والتشظي.

هناك أسباب رئيسة خلف هذا التشظي المتوقع قريباً للعدالة والتنمية، في مقدمتها ازدياد عدد الملفات الخلافية بين “أردوغان” وفريقه من جهة، والمجموعة المعارضة، من جهة أخرى، وامتلاك الأخيرة طموحاً سياسياً في مستقبل تركيا، وتراكم الأزمات وتزامنها في البلاد داخلياً وخارجياً، وتراجع حضور الحزب في الحياة السياسية التركية نسبياً في عدة مناسبات انتخابية مؤخراً، وصلت ذروتها مع الانتخابات البلدية في مارس، وانتخابات الإعادة لبلدية إسطنبول الكبرى في يونيو الماضيين.

المستقبل

خرجت من حزب العدالة والتنمية سابقاً قيادات عدة، أبرزها نائب رئيس الوزراء الأسبق وأحد مؤسسي الحزب «عبداللطيف شنار»، لكنها لم تتسبب بتراجع شعبية الحزب في ظل إنجازاته وزعامة «أردوغان» المسلّم بها، وتواضع الأسماء المنسحبة من الحزب كذلك، لكن الأمر اليوم يبدو مختلفاً نوعاً ما.

فمن جهة، يدور الحديث حول عدد كبير من القيادات المؤسِّسة للعدالة والتنمية وصاحبة البصمات في مسيرته وبصماته إلى جانب “أردوغان”، ومن جهة أخرى يبدو الحزب في مسار تراجع نسبي مستمر منذ الانتخابات البرلمانية في يونيو 2015م.

اليوم، ثمة حزبان يُتوقع خروجهما للعلن قريباً من رحم العدالة والتنمية، أحدهما بقيادة “باباجان” بدعم من “جول”، ويضم عدداً من الأسماء الكبيرة، والثاني بقيادة “داود أوغلو”، ويضم عدداً من القيادات والكوادر الحزبية الشابة.

وفي حين تريد المجموعة الأولى هوية جمعية لجذب مختلف ألوان الطيف التركي مع تركيز واضح على الجانب الاقتصادي الذي يبرع به “باباجان”، يركز “داود أوغلو” على منظومة القيم التي يرى أن العدالة والتنمية قد فقدها مؤخراً، ويبدو أكثر محافظة ووضوحاً من المجموعة الأولى، وبالتالي قدرةً على جذب القاعدة المحافظة لحزبه القديم.

ورغم رغبة “داود أوغلو” شبه المعلنة بالتعاون مع مجموعة “باباجان”، فإن الأخيرة تتحفظ عليه لعدة أسباب، من بينها هويته المحافظة الواضحة، والملف السوري الذي حُمِّل وزره، وعامل التنافس القيادي الوارد جداً مع شخص مثله.

لم يُعلن الحزبان رسمياً بعد، وإنما ما زالت اجتماعات الإعداد مستمرة في كليهما، وبالتالي ما زالت برامجهما وخططهما غير واضحة للشارع التركي، ما يجعل من الصعوبة بمكان توقع درجة حضورهما لدى الناخبين، إلا أن الثابت أنهما سيكونان قادرين على السحب من خزان العدالة والتنمية الانتخابي بهذه الدرجة أو تلك، وفي ظل حالة الاستقطاب المستمرة في البلاد على مدى السنوات القليلة الأخيرة، وتقارب حظوظ تحالفي الشعب والأمة، ومسار تراجع العدالة والتنمية النسبي، سيكون من البديهي القول بأن التأثير البسيط في صندوق الانتخابات بالنسبة للحزبين المنتظرين قد يكون له تأثير الفراشة الكارثي على الحزب الحاكم.

ورغم أن “أردوغان” ومعه قيادة الحزب ما زالوا يملكون أوراق قوة كثيرة، في مقدمتها كاريزما “أردوغان” والإجماع حوله، وإنجازات العدالة والتنمية، والحضور الجماهيري الأكبر في البلاد، وإمكانات الإصلاح والتطوير، ووجود مساحة زمنية مريحة حتى انتخابات 2023م، فإن كل ذلك ليس ضامناً لعدم خسارة الأخير جزءاً من قياداته وكوادره وقاعدته الجماهيرية.

وبهذا المعنى، وبغض النظر عن مدى حضور الحزبين الجديدين (يتوقع إعلانهما قبل نهاية العام) في الشارع التركي، يمكن القول: إن العدالة والتنمية سيتأثر -إلى حد ما- بوجودهما، ما يعني أن الخريطة السياسية والحزبية في البلاد تبدو على أبواب مرحلة جديدة عنوانها التشظي وازدياد مستوى التنوع والفسيفساء الحزبية؛ الأمر الذي يضع تركيا والعدالة والتنمية أمام عدة احتمالات مستقبلية من بينها الانتخابات المبكرة، وإضعاف الرئيس من خلال خسارته لدعم أغلبية البرلمان، وانسداد الحياة السياسية، ما يطرح أسئلة مهمة حول ما يخفيه “أردوغان” في جعبته لمحاولة تخطي هذه الأزمة الأولى من نوعها التي يواجهها حزبه.

 

____________________________

(*) محلل سياسي مختص بالشأن التركي.

Exit mobile version