بدأت وزارة التربية في دولة الكويت تطبيق منهج «الكفايات» منذ العام 2014م، وإعداد مناهج دراسية جديدة وفق إستراتيجياته، وهو من أحدث المناهج الدراسية في العالم، ويتماشى مع الثورة المعرفية والتكنولوجية التي نعاصرها، لأنه يُعِدّ طالباً يمتلك من المهارات والقدرات التي تجعله يتعايش مع ثورة العلوم والتقنيات والإبداع، ولكن هذا المنهج -غداة تطبيقه- أثار بعضاً من اللغط والجدال حوله، وهذا شأن الجديد دوماً، وسرعان ما تم قبوله، والعمل به، ومواصلة تأليف المناهج بناء عليه، وتقبل المعلمين له، بما يعني استقراره في الميدان التربوي.
فلسفة «الكفايات»
ويشكل منهج «الكفايات» الجيل التالي لمنهج الأهداف، وتقوم فلسفته على إعداد طالب منفتح الفكر والثقافة، متسلح بأفضل المهارات الذهنية والمعرفية واللغوية والعلمية، وأن تكون المعلومات المكتسبة من المناهج الدراسية سبيلاً له في الإفادة المعرفية خارج جدران المدرسة، فلا يكون المستهدف من العملية التعليمية هو نجاح الطالب في الاختبارات فقط، وإنما الهدف الأساسي: كيف يمكن للطالب تنمية ذاته في حياته العملية؛ مما درسه في مراحل التعليم المختلفة؟ وكيف له أن يطور من ذاته وقدراته عبر برامج التعليم المستمر مدى الحياة؟
ولذا، تهتم مناهج الكفايات المؤلَّفة بإفساح المجال للتطبيقات العلمية والمعرفية، وليس إيراد المعلومات فقط، مع الأخذ في الحسبان ربط الطالب بالواقع العملي الذي يحياه في منزله، ومحيطه الاجتماعي، وسائر هواياته وميوله، فلا يمكن فصل المدرسة والتعليم عن حياة الطالب الخاصة أو العامة، بل إن المأمول أن ينمّي الطالب قدراته داخل المدرسة وخارجها، ويفعّل مواهبه لا أن يهملها.
والمثال على ذلك، الطالب الذي يتدرب على كتابة التعبير في اللغة العربية، من أجل النجاح في الاختبارات القصيرة والطويلة، يجب أن يتم تدريبه على كتابة صحيحة في مختلف ممارساته في الحياة مستخدماً اللغة العربية، وبدلاً من التدريب على كتابة تعبير مطول، يمكننا –وفق منهج الكفايات- تدريبه على كتابة رسائل البريد الإلكتروني، أو التعليقات الصحيحة في وسائل التواصل الاجتماعي، أو كتابة تقارير موجزة عن أنشطة علمية وإبداعية قام بها، بدلاً مما نراه من فوضى الكتابة بالعامية والحروف اللاتينية والكلمات الأجنبية، فالغاية تعليم الطالب مهارات التواصل الصحيح والفعال مع المجتمع، وأن يُزَال عنه شبح الاختبارات ورعبها، وأن يحسن استخدام معارفه في مختلف شؤون حياته، وبذلك يتحول التعليم من تعليم من أجل حفظ المعلومات وسكبها في الاختبارات، التي قد ينساها الطالب لاحقاً، إلى تعليم من أجل الذات والحياة والوطن؛ فيفيد نفسه، ويثري مجتمعه.
أما مفهوم الكفاية، فهو مأخوذ من المصطلح «Competence»، ويعني الكفاءة، التي تفيد المقدرة على الفعل، بعد امتلاك المعرفة والتدريب عليها، فهدف منهج الكفايات امتلاك الطالب في نهاية كل مرحلة دراسية (ابتدائية، متوسطة، ثانوية) الكفايات الضرورية، التي هي حصيلة تعلّمه وتدريبه طيلة سنوات الدراسة في المرحلة، حيث يتم اختباره فيها بشكل محايد، بامتحانات شفاهية وكتابية، ونظرية وعملية؛ للوقوف على مدى تمكنه من المهارات المختلفة.
مقترحات تطويرية
وقد وضعت الوزارة خطة لتحديث المناهج وفق هذه الرؤية، وقطعت شوطاً لا بأس به في هذا المضمار، ولكن نطمح في هذا النقاش التركيز على جملة من الأمور، أملاً في مزيد من التطور، وبغية تحقيق عملية تربوية شاملة، تنفع الطالب، وترتقي بالمجتمع.
فمن المهم أن تراعي المناهج ترسيخ الهوية العربية الإسلامية لدى الطلاب، وذلك بتطبيق إستراتيجية «دائرية المعرفة»، وهي من أهم محاور منهج الكفايات، بمعنى أن تتكامل المعلومات التي يدرسها الطالب في المواد الدراسية المختلفة، ويتم توظيفها بشكل صحيح خلال الأداء التعليمي والأنشطة المتصلة بكل مادة، منعاً لتكرار المعلومات، أو تناقضها أو نقصانها؛ مما يتطلب وعي المعلم بالمواد الدراسية الأخرى واطلاعه عليها، وأن تكون المناهج معززة للقيم الأخلاقية السامية، مع تأصيل القيم الإنسانية إسلامياً، خاصة قيم الاعتدال والوسطية، وقبول الآخر، وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش، وأيضاً ترسيخ الهوية الكويتية والخليجية، وربط الطالب بمجتمعه المحلي، ليتعرف تراث أجداده، فمن أهم أهداف التربية ضمان انتقال التراث من السلف إلى الخلف.
كذلك، ينبغي تغيير ثقافة المعلمين والمعلمات في الميدان، فبعضهم غير مستوعب لطرائق التدريس الحديثة بشكل كامل، ولا يزال مؤمناً بالطرق التقليدية، ونحن لسنا ضد هذه الطرق، فلها فعاليتها دون شك، فبعضهم يظن أن التعليم الحداثي (الكفائي) يعني ترك الشرح والتبسيط والإيضاح، والاكتفاء بعمل أنشطة شيقة للطالب في الصف، وهذا غير صحيح بالمرة، فواجب المعلم إفهام الطلاب وتيسير المعلومات المقدمة لهم، ثم تأتي الطرق الحديثة للتدريب وتعميق الفهم.
ويتم تحديث الأداء الصفي؛ عبر إستراتيجيات التعليم النشط (Active Learning)، التي تشمل أكثر من مائة إستراتيجية، تسعى إلى التدريب العملي للطالب، وإيجاد بيئة صفية جاذبة ماتعة، بعرض الأفلام القصيرة، وتكوين مجموعات العمل التعاوني، للنقاش والعصف الذهني (Brain Storming)، والتفكير الإبداعي، وأيضاً عمل أنشطة تمثيلية في الصف أو خارجه، يمكن فيها تطبيق فكرة مسرحة المناهج؛ بأن يقوم المعلم مع طلابه بتحويل بعض نصوص المنهج إلى حوار مسرحي، في تمثيليات قصيرة تُعرَض في الصف، أو في المسرح المدرسي، أو أمام الطلاب في إذاعة الصباح، بأبسط الإمكانات في الملابس والديكور، ولننظرْ إلى عظم التأثيرات النفسية على الطلاب، وكيف يتم اكتشاف الموهوبين منهم، ودعم خبراتهم، وكما يقال، فإن المدارس صانعة الرجال والمواهب.
كما يمكن للطالب أن يكون شارحاً للمادة العلمية، إذا توافرت لديه القدرة على توصيل المعلومات بشكل مبسط لزملائه، وذلك بتفعيل إستراتيجية «المعلم الصغير»، حيث يعدّ جزءاً من الدرس، ثم يقف أمام زملائه شارحاً، مما يكسبه شجاعة المواجهة، وطلاقة الكلام، والقدرة على الرد وإدارة النقاش.
كما يجب على الطالب الذهاب إلى المكتبة المدرسية للاطلاع والبحث، أو يستفيد مباشرة من شبكة المعلومات الدولية، بالمدرسة أو خارجها، بل يمكنه التواصل مع معلمه -في أي مادة- من خلال البريد الإلكتروني، يستفسر منه على ما غمض عليه، ويرسل له الواجبات المكلف به، ويتعرف من معلمه على ما أصاب فيه أو أخطأ.
يعتمد تعليم المستقبل بشكل فاعل على ما يسمى التعليم الإلكتروني، والمدرسة الحديثة في نظمها، وطرق تعليمها؛ الأمر الذي يستلزم برامج تدريبية مكثفة للمعلمين والمعلمات، على مثل هذه الإستراتيجيات، على أن يكون المعلم واعياً بأنه ذو رسالة سامية، خاصة على صعيد اللغة العربية، فليس من المقبول أن يقتصر الحديث بالفصحى على حصص اللغة العربية فقط، بل لا بد أن تكون جميع المواد الدراسية -عدا حصص الإنجليزية والفرنسية– بالفصحى المبسطة، بعيداً عن العاميات المختلفة حسب جنسيات المعلمين.
فالفصحى عنوان هويتنا، وعلامة اعتزازنا بتراثنا، ولا يمكن قبول أن يحب أبناؤنا الطلاب اللغات الأجنبية، ويجتهدون في تعلمها، ويشتكون من صعوبة الفصحى؛ على الرغم من الجهود المبذولة في تبسيط النحو والبلاغة، ونرى أن السبب في ذلك هو عدم اتخاذ الفصحى لغة للتحاور داخل أسوار المدرسة.
عندما يتحول الطالب السلبي إلى طالب متفاعل، يسابق زملاءه في أداء الأنشطة داخل الصف وخارجه، وسباق للحضور للمدرسة، لما فيها من تعليم ماتع، وأنشطة بنّاءة، ويصبح المعلم حجر الزاوية في التطوير والإرشاد، نكون حينها حققنا النجاح الأمثل للتعليم.