المنطقة الآمنة بسورية.. هل تحصل تركيا أخيراً على ما تريده؟

منذ أن استقر التعامل الأمني للنظام مع المظاهرات الشعبية في سورية، ومع ازدياد أعداد اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية، ثم إنشاء التحالف الدولي لمواجهة «داعش»؛ طرحت أنقرة مراراً ودائماً فكرة إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري بمحاذاة حدودها، دون أن تلقي آذاناً صاغية من واشنطن تحديداً.

مؤخراً، أبرم الطرفان اتفاقاً أولياً لإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري؛ فما الذي تغير؟ وهل ستصل أنقرة أخيراً لمبتغاها؟
في البدايات الأولى، ومع اعتبار أنقرة نظام «الأسد» فاقداً للشرعية والأهلية، ودعمها للمعارضة السياسية والعسكرية بمختلف الأشكال، كان من أهم أهداف تركيا من طرح فكرة المنطقة الآمنة تشكيل منطقة محظورة الطيران، تصبح مأمناً للمعارضة وحاضنتها الشعبية من قصف طائرات النظام، ولئن تراجع هذا الهدف مع السنوات الأخيرة، التي شهدت متغيرات في الموقف التركي من القضية السورية برمته، فضلاً عن التغيرات الجذرية في الأزمة نفسها؛ فإن الأسباب الأخرى بقيت قائمة ومعتبرة من وجهة نظر أنقرة.
مؤخراً، أصبحت تركيا تملك دافعين رئيسين لسعيها لتشكيل منطقة آمنة على حدودها الجنوبية في الشمال السوري:
الأول: إبعاد قوات سورية الديمقراطية أو وحدات حماية الشعب -المصنفة كمنظمة إرهابية بالنسبة لها- عن حدودها مسافة مقبولة تشكّل ضامناً للداخل التركي.
الثاني: إعادة نسبة معتبرة من اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها للمنطقة الآمنة حال توافرها، وتأمينها وتأهيل بنيتها التحتية.
اللافت أن واشنطن رفضت الفكرة، وماطلت بها كثيراً في الفترة الأولى التي كان الهدف الرئيس خلالها تأمين منطقة للمعارضة بعيداً عن استهداف «الأسد»، وهي الحقبة التي كان لواشنطن نفسها موقف حاد من النظام، بينما هي اليوم أقرب للتجاوب مع أنقرة بخصوصها، رغم أن هدفها الرئيس اليوم -حسب ما تعلن أنقرة نفسها- هو مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه في سورية.

مواجهة من 3 مراحل
يمكن التأريخ بنهاية عام 2015 وبداية عام 2016م للانعطافة التركية فيما يتعلق بالقضية السورية، التي تمثلت في جزء منها بإدراك موازين القوى الجديدة بعد التدخل الروسي المباشر، وفي جزء آخر بالتصالح مع موسكو بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية، وأخيراً بتحديد الأولويات التركية في القضية السورية والعمل على أساسها.
ومنذ ذلك الحين، بل منذ ما قبله، تمثل مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سورية أولوية تركيا الأهم؛ حيث ترى أنقرة أن الحزب -الامتداد السوري للعمال الكردستاني- وأذرعه العسكرية، مثل وحدات الحماية (YPG)، وقوات سورية الديمقراطية (SDF)، يسعى لإنشاء دويلة أو كيان سياسي في الشمال السوري، يمكن أن يتحول لمنصة مناهضة لتركيا تطلق منها عمليات إرهابية على غرار جبال قنديل شمال العراق، فضلاً عن تأثيرات ذلك السلبية على الملف الكردي الداخلي في تركيا.
كان الحزب يسيطر، منذ يناير 2014م، على ثلاثة “كانتونات”، هي الجزيرة، وعين العرب في الشرق، وعفرين في الغرب، ويطمح لوصلها، ثم للوصول إلى ضفاف البحر المتوسط، وهي المعطيات التي بنت على أساسها أنقرة إستراتيجية المكافحة الخاصة بها.
قضت الإستراتيجية بمنع التواصل الجغرافي بين الكانتونات أولاً، وهو ما تم مع عملية “درع الفرات” في عام 2016م، ثم القضاء على سيطرة الوحدات على عفرين بالغرب؛ وبالتالي منع وصولها للبحر، وهو ما تم مع عملية “غصن الزيتون” في عام 2018م.
هكذا بقيت قوات سورية الديمقراطية قوية ومسيطرة في مناطق واسعة وغنية شرق نهر الفرات بفعل دعم واشنطن وتدريبها وتسليحها؛ ولذا فمواجهتها هناك، وتقويض البنية التحتية التي يمكن أن تساعدها على إنشاء كيان سياسي في المستقبل، هي المرحلة الثالثة والرئيسة التي تهدد بها تركيا منذ فترة وتؤكد استعدادها لها.

ما الذي تغير؟
في يوليو الماضي، بدأت التصريحات التركية بخصوص المنطقة الآمنة ومنطقة شرق الفرات تحمل نبرة تهديد أكثر جدية تجاه قوات سورية الديمقراطية، مرفقة بحشود وتعزيزات عسكرية كبيرة على الحدود، إضافة لبعض التفاصيل اللوجستية على الحدود.
ومع تكرار تأكيد عدد من المسؤولين الأتراك على إتمام بلادهم استعداداتها للعملية العسكرية، واستخدام مجلس الأمن القومي التركي مصطلح «ممر سلام» لوصف ما تريده أنقرة في الشمال السوري لأول مرة، وحديث «أردوغان» عن أن العملية باتت قريبة خلال أيام؛ تأكد لدى واشنطن جدية أنقرة هذه المرة أكثر من أي تاريخ سابق.
ولذلك، فيما يبدو، حدث التجاوب الأمريكي السريع والمكثف مع المطالب التركية، بما نتج عنه عدة لقاءات وزيارات واتصالات؛ أهمها بين الناطق باسم الرئاسة التركية «إبراهيم كالين»، ومستشار الأمن القومي الأمريكي «جون بولتون»، وزيارة المبعوث الأمريكي الخاص لسورية «جيمس جيفري» إلى أنقرة، وسلسلة من اللقاءات بين وفود من وزارتي دفاع البلدين نتج عنها اتفاق.
ما رشح عن الاتفاق أشار إلى كونه مجرد تفاهمات مبدئية لم تتطرق لعمق الملفات الخلافية بين البلدين، خصوصاً النقاط الثلاث الأهم: عمق المنطقة الآمنة وامتدادها، ومَنْ سيديرها، وكذلك مصير قوات سورية الديمقراطية.
وعليه، يمكن القول: إن واشنطن نجحت في نزع فتيل العملية العسكرية التركية، وتأجيلها حتى إشعار آخر، وضمان تنسيق أنقرة معها قدر الإمكان قبل أي تحرك مستقبلي لها.

آفاق المستقبل
بدأت بعد الاتفاق مباشرة سلسلة اجتماعات بين العسكريين من الطرفين، وأعلنت أنقرة عن بداية المرحلة الأولى من إنشاء المنطقة الآمنة إثر اتصال بين وزيري دفاع الجانبين، كما أكد «كالين» أن طلعات لطائرات من دون طيار ستبدأ قريباً في الشمال السوري لإتمام الاستعدادات للمنطقة الآمنة.
ورغم ذلك، تبقى الخلافات الرئيسة بين البلدين بخصوص المنطقة الآمنة قائمة، وما تزال الهوة بينهما شاسعة بخصوص الملفات الثلاثة الرئيسة سالفة الذكر، فضلاً عن الخلافات الكبيرة في اتجاهات السياسة الخارجية لكليهما، ويمكن إعادة خلافهما حول المنطقة الآمنة إلى فلسفة كل منها بخصوصها، إذ يمكن تلخيصه بكون أنقرة تريد منها تقويض إمكانات قوى سورية الديمقراطية، بينما تريد منه واشنطن حماية الأخيرة من أنقرة.
ولذا، تبدو أنقرة هذه المرة أكثر حذراً من واشنطن، إذ ردد وزير الخارجية «مولود تشاووش أوغلو» أكثر من مرة أن بلاده «لن تسمح للولايات المتحدة بأن تماطلها كما فعلت في منبج»، في إحالة للتفاهمات التي أبرمها الجانبان بخصوص البلدة المذكورة في عام 2016م، وما زالت أنقرة منذئذ تنتظر من واشنطن الإيفاء بالتزاماتها بخصوصها دون جدوى.
وعليه، فمن الصعب توقع توصل الطرفين لاتفاق تفصيلي حول المنطقة الآمنة، فضلاً عن انتقال الأمر إلى الحيز العملي؛ ما يعني أن إصبع أنقرة يبقى على الزناد، إن جاز التعبير، حتى حين، في انتظار ومراقبة كيفية تعامل واشنطن مع الملف، بما يعني أن العملية العسكرية التركية في مناطق شرق الفرات في سورية ما زالت احتمالاً قائماً.
إلا أن الأرجح من العملية العسكرية هو التوصل لحلول وسط، مثل إبعاد قوات سورية الديمقراطية عن الحدود التركية، أو إنشاء منطقة خالية من المجموعات المسلحة بعمق أقل مما تطلبه تركيا، أو إدارة مشتركة بين أنقرة وواشنطن، وهي حلول ممكنة بالنظر لتعقيدات الملف السوري، وتوازنات تركيا الحساسة بين الولايات المتحدة وروسيا، أو شرق الفرات وإدلب.

 

________________________

(*) محلل سياسي مختص بالشأن التركي.

Exit mobile version