هل بدأت رحلة عطش مصر والسنوات العجاف بنقص 10% من إيراد النيل؟

في الوقت الذي دخلت فيه القاهرة في “حسبة برما” لحساب حجم المياه التي ستحجبها إثيوبيا عنها حال بدأت حجب 74 مليار متر مكعب من فيضان النيل وهي تستعد لملء خزان سد النهضة، فوجئ المسؤولون المصريون خلال استعراضهم الموقف المائي لفيضان النيل هذا العام (2019/ 2020م) أن الإيراد المائي الوارد لمصر سينخفض بحوالي 5 مليارات عن العام الماضي، أي قرابة 10%!

ما يزعج مصر أن حصتها السنوية من مياه النيل تعادل 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وهي لا تكفي المصريين أصلاً الذين يحتاجون سنوياً نحو 89 مليار متر مكعب من المياه، أي تعاني من عجز مائي يقدَّر بنحو 34 مليار متر مكعب، وحال نقصها 5 مليارات ستزيد الأزمة، وفي حالة بدء إثيوبيا حجز مياه النيل خلال العام المائي الناقص الحالي، ستتحول الأزمة إلى معضلة تعيد طرح تكهنات العطش وسنوات عجاف تواجه مصر.

وتخشي القاهرة من نية إثيوبيا ملء السد في 5 سنوات، ورفضها مطالب مصرية بأن يكون الملء خلال 14 سنة أو 10 سنوات، لأن هذا يعني منع وحجب ما يقرب من 14 إلى 15 مليار متر مكعب من النيل الأزرق سنوياً عن مصر والسودان لأن سعة السد الإثيوبي 74 مليار متر مكعب.

وإذا تصورنا أن حجم المياه في بحيرة السد العالي حالياً 177 مليار متر مكعب وسحبت منها إثيوبيا قرابة 74 ملياراً تم حجزها عن مصر، كما سحب أيضاً 5 مليارات هي قيمة عجز العام المائي الحالي فهذا معناه نقص مخزون بحيرة السد للنصف تقريباً وتعطيل توربينات السد وزيادة رقعة الجفاف في مصر ومشكلات بيئية وسمكية أخرى.

وحال استمر النقص في إيرادات مصر المائية من أعالي النيل سنوات قادمة ستتفاقم الأزمة أكثر، وقد تثار مخاوف العطش بالفعل في مصر وتعطيل صناعات وزراعات.

ربما لهذا أعلنت وزارة الري المصرية رفع حالة الطوارئ القصوى خلال الفترة المقبلة لتوفير الاحتياجات المائية للبلاد وبصفة خاصة مياه الشرب؛ ولكن اقتصرت الإجراءات على منع زراعة الأرز بكميات كبيرة والسعي لاستغلال مياه الأمطار والصرف الصحي.

ولكن المشكلة الأكبر المتعلقة بسد النهضة لا تزال عالقة، وإثيوبيا تواصل البناء غير عابئة بما تعانيه مصر، رغم أن سد النهضة سيحجب نصف احتياجات مصر في فترة ملء السد ويزيد المخاوف من أزمة عطش وصراعات قد تتصاعد.

ماذا يعني تقلص إيراد النيل؟

يتصور كثير من المصريين أن نقص كميات المياه القادمة لمصر من منابع النيل في العام المائي الحالي الذي بدأ في يوليو 2019م ويستمر حتى أمطار أكتوبر بنسبة 10%؛ سيؤدي لتقلص كمية المياه التي تحصل عليها مصر، وبدلاً من حصولها على 55 مليار متر مكعب ستحصل على 50 ملياراً، ولكن هذا غير صحيح.

فما يحدث هو أن كميات المياه التي تستهلكها أو تسحبها مصر من بحيرة السد العالي شبه ثابته سنوياً، وهي 55.5 مليار متر مكعب ولكن المياه التي تصل للسد العالي من بنك مصر المائي ومخزونها الذي يقيها من العطش في سنوات نقص الأمطار على الهضبة الإثيوبية، هي التي ستنقص.

ولكن المشكلة أن مصر كانت تستعد لاستقبال كميات أقل من إيراد النيل مع بدء حجز إثيوبيا المياه لملء سد النهضة على مدار 3 أو 5 سنوات أو أكثر حسبما يتم الاتفاق عليه (لم يتم الاتفاق بعد)، وبالمقابل سحب النقص في هذه الكميات القادمة من أعالي النيل من مخزون بحيرة السد العالي.

ويؤكد المهندس عبداللطيف خالد، رئيس قطاع الري بالوزارة، أن مصر سوف تتأثر بشدة هذا العام بسبب قلة ما سيصلها من مياه نهر النيل، وهو ما كانت الوزارة تتحسب له بدعوات الترشيد والتقشف في استهلاك المياه.

ويشير إلى أنه في حالة نقص إيراد النيل، هنا يأتي دور السد العالي وبحيرة ناصر التي تخزن فيها 179 مليار متر مكعب وبها حالياً قرابة 176 ملياراً بسبب الفيضان العالي العام الماضي، والوزارة سوف تعوض نقص هذا العام من مخزون بحيرة ناصر والمياه الجوفية، ومياه الصرف الزراعي.

هل يزيد سد النهضة أزمة مصر؟

ليس هناك علاقة للنقص الحالي في إيراد مصر من النيل 5 مليارات متر مكعب ببناء سد النهضة؛ لأنه لم يتم بدء ملء خزان السد بعد، ولكن للسد الإثيوبي مخاطر جمة على مصر.

ويرى د. نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية والري بجامعة القاهرة، أن تخزين وحجز إثيوبيا لنحو 74 مليار متر مكعب خلف بحيرة السد؛ سيؤدي إلى بوار أراض زراعية بسبب نقص حصة مصر المائية، واختفاء أنواع مهمة من الأسماك في النيل، والتأثير على الكهرباء المتولدة من السد العالي.

وحذر د. نور الدين، من التوقيع على اتفاقية عنتيبي كما حدث مع اتفاق المبادئ مع إثيوبيا الذي سمح لها لاحقاً ببناء سد النهضة، مؤكداً أن “عنتيبي أخطر من سد النهضة”.

وقال: إن مخاطر سد النهضة تنحصر في أنه سيحجز 74 مليار متر مكعب مياه على عدة سنوات لم تتحدد عن مصر، بينما التوقيع على اتفاقية “عنتيبي” بحالتها الراهنة يعني حرمان مصر من حصتها التاريخية السنوية المقدرة بـ55 مليار متر مكعب أصلاً!

وخطورة اتفاقية عنتيبي على مصر أنها لا تعترف باتفاقيات مياه النيل السابقة عامي 1929 و1956م، ومن ثم تسمح لكل دول حوض النيل بإقامة مشاريع سدود مائية وكهربائية وحواجز على مجري النيل تقتطع كمية كبيرة من نصيب مصر من المياه التي لا تكفيها أصلاً حالياً وتلغي ما يسمي حق “الفيتو” المصري على بناء أي سدود على النيل تهدد مصر.

ويحذر الخبير المائي من أن مصر سبق أن فقدت آخر ورقة مناورات تمتلكها بعد اعترافها بسد النهضة دون شروط، وتسرعت في التوقيع على وثيقة إعلان المبادئ مع إثيوبيا، وأن موافقتها على اتفاقية عنتيبي بحالتها دون تعديلها معناه إعطاء كل دول أعالي النيل الحق في بناء السدود وسحب المياه التي تصل لمصر.

ويلخص نور الدين المشكلة في أننا أخطأنا في التفاوض حول سد النهضة، وأنه كان يجب أن تضع مصر اعترافها بالسد مقابل اعتراف إثيوبيا بحصة مصر المائية والتعهد بالحفاظ عليها، بعد إنشاء السد، ولكننا فقدنا للأسف آخر ورقة مناورات نمتلكها، فأصبحنا في ورطة حقيقية، بحسب تعبيره.

لقد أدى ثبات موارد المياه وارتفاع معدلات النمو السكاني إلى تراجع نصيب الفرد من المياه في مصر إلى900 متر مكعب سنويًا، وهو ما يعني أن مصر دخلت مرحلة الخطر، وصنفتها المؤسسات الدولية بأنها تحت خط الفقر المائي.

ولكن استمرار نزيف المياه سواء بتناقص ما يصل لمصر عبر نهر النيل بفعل عوامل مناخية أو بفعل سد النهضة سيجعل مرحلة الخطر الحالية أكثر شراسة وتهدد أمن مصر المائي.

Exit mobile version