هل هي صفقة أم خطة؟ وما فرص نجاحها؟

 

جوهر الصفقة يتمثل في حكم ذاتي يتكفل بعبء الفلسطينيين في مناطقهم بالضفة الغربية مع تحسينات أخرى

تقوم الخطة على 4 مبادئ: حرية الفرص وحرية الدين والعبادة والاحترام والأمن

هدفها تحوُّل الصراع إلى مجرد نزاع حدودي مثل كثير من النزاعات التي تزدحم بها أروقة الأمم المتحدة

إذا فتحت أبواب التطبيع مع الاحتلال فإن تحويل المؤقت إلى دائم يصبح أمراً واقعاً

الحديث عن إدخال الأردن على الخط عبر الضغوط بربط سكان الضفة معه دون سيادة على الأرض

إفشالها ليس له سوى الشعب الفلسطيني الذي يمكن أن ينتفض ضدها بوصفها عملية بيع بلا توقيع

 

  

سال حبر كثير في الحديث عما عُرف إعلامياً بـ “صفقة القرن”، وهو المصطلح الذي لم يستخدمه أصحابها؛ أي فريق «ترمب» المعني بملف القضية.

المصطلح الذي استخدمه صهر «ترمب» (كوشنر)، ومبعوثه للشرق الأوسط (جيسون غرينبلات)، وسفيره في القدس (ديفيد فريدمان) كان «خطة»، وفي اعتقادي أن الأخير ربما كان الأقرب إلى الصواب؛ أقله في ظل الظروف الراهنة بالمنطقة.

نقول ذلك لأن مصطلح «صفقة» يعني اتفاقاً نهائياً، يتطلب توقيع الطرفين، وينهي الصراع بشكل كامل، لكن من يديرون اللعبة، وفي مقدمتهم «نتنياهو» الذي قرأها على تلميذه «كوشنر»، يدركون أن ذلك قد لا يكون متاحاً.

لا يعني ذلك أن حلم الصفقة قد غاب تماماً؛ فالحريق المشتعل في المنطقة ربما حمل بعض الآمال للصهاينة كي ينجزوها بالكامل، أي أن يحصلوا على توقيع نهائي، وهناك بعض مراهقي السياسة في المنطقة، ممن يبحثون عن شرعية من الخارج، بسبب اشتباكاتهم الداخلية، ربما أوحوا لهم بإمكانية ذلك.

لو تحدثنا عن الصفقة/ الحلم، فإنها تقريباً هي ذاتها التي تداعب أحلام الصهاينة طوال الوقت، إذ حلموا بها بعد اتفاق أوسلو عام 1993م، وحلموا بها بعد غزو العراق عام 2003م ومخطط إعادة تشكيل المنطقة.

جوهر الصفقة

يتمثل جوهر الصفقة في حكم ذاتي يتكفل بعبء السكان الفلسطينيين في مناطق تجمعاتهم بالضفة الغربية، مع تحسينات أخرى -أهمها الاقتصادية- مع بقاء السيادة على الأرض للصهاينة، ومن دون عودة اللاجئين بالطبع.

ليس هناك أي تنازل عن الأرض (أي أرض بمعنى الاعتراف بها كأرض فلسطينية) من قِبَل الصهاينة، لأن ذلك سينسف روايتهم للصراع برمته، هي عملية إدارة سكان لا أكثر، وهؤلاء موجودون عملياً على نحو 40% من الأراضي المحتلة عام 1967م أو نحو 10% من مساحة فلسطين التاريخية.

وإذا تذكّرنا أن الحكم الذاتي قائم عملياً منذ أوسلو عام 1993م، أو بعده بقليل حين امتد إلى الضفة، وصار أكثر التزاماً بكل متطلباته منذ عام 2004م، حين جاءت القيادة الجديدة على أنقاض عرفات يرحمه الله، فإن ما يتبقى عملياً هو أمران؛ الأول: ما يتعلق بالتحسينات الاقتصادية، وهذه كانت مهمة «توني بلير» منذ عام 2004م، قبل أن يتركها، فيما كان الجنرال «دايتون» هو الذي تولى الشق الأمني من الوضع الجديد، وصاغ جهازاً أمنياً فلسطينياً عنوانه «الفلسطيني الجديد»، وفق تعبيره؛ لا يوجه بندقيته للعدو الصهيوني!

في إحدى إطلالاته الفريدة التي شرح من خلالها الخطة، قال «كوشنر» في مقابلة مع «سكاي نيوز»: «إن الوضع الذي يتم التفاوض بشأنه لم يتغير كثيراً خلال السنوات الـ25 الأخيرة»، مضيفاً: «ما حاولنا فعله هو صياغة حلول تكون واقعية وعادلة لهذه القضايا في عام 2019م، من شأنها أن تسمح للناس بعيش حياة أفضل».

مبادئ الخطة

أما مبادئ الخطة كما قال، فهي أربعة: «حرية الفرص، وحرية الدين والعبادة بغض النظر عن معتقداتهم، الاحترام، وأخيراً الأمن».

وعن أسباب عدم التوصل لحل سابقاً، قال «كوشنر»: «لم نتمكن من إقناع الشعبين بتقديم تنازلات؛ لذلك لم نركز كثيراً على القضايا رغم تعمقنا فيها، بل على ما يمنع الشعب الفلسطيني من الاستفادة من قدراته الكاملة، وما يمنع الشعب «الإسرائيلي» من الاندماج بشكل ملائم في المنطقة بأكملها».

ثم ركّز على البعد الاقتصادي للخطة بالقول: «لا أعتقد أن الأثر الاقتصادي للخطة سيقتصر على «الإسرائيليين» والفلسطينيين فقط، بل سيشمل المنطقة برمتها، بما في ذلك الأردن ومصر ولبنان».

وأضاف: «الخطة مفصّلة جداً، وتركز على ترسيم الحدود وحل قضايا الوضع النهائي، لكن الهدف من حل قضية الحدود هو القضاء على هذه الحدود، وإذا تمكنّا من إزالة الحدود وإحلال السلام بعيداً عن الترهيب، يمكن أن يضمن ذلك التدفق الحر للناس والسلع ويؤدي ذلك إلى إيجاد فرص جديدة».

هنا يتأكد جوهر الخطة التي هي ذاتها خطة «السلام الاقتصادي» التي طرحها «نتنياهو» منذ زمن طويل، وسبقه إليها «بيريز»، بمسمى «الدولة المؤقتة»، وكذلك «شارون» الذي سماها «الحل الانتقالي بعيد المدى»، والخلاصة هي ترك القضايا المعقدة (القدس، السيادة، اللاجئين) إلى زمن قادم، وفتح أبواب التعاون، وبمرور الوقت يتحوّل المؤقت إلى دائم، وهذا هو ما اصطلح عليه قبل ظهور مصطلح «صفقة القرن» بـ “الحل الإقليمي”، أي تطبيع عربي واسع، مع تحسين لوضع الحكم الذاتي، وليتحوّل المؤقت بعد ذلك إلى دائم، وأقله يتحول الصراع إلى مجرد نزاع حدودي مثل كثير من النزاعات التي تزدحم بها أروقة الأمم المتحدة.

هذا كله، قبل أن تفتح تطورات الإقليم، وتكريس السلطة الفلسطينية في خدمة الاحتلال شهية الصهاينة على تصفية القضية بالكامل، ومن خلال حل نهائي.

مشكلة التوقيع

حين نتفحص الموقف سنجد أن مشكلة محمود عباس هي في التوقيع على هذه الخطة كحل نهائي، أو كـ “صفقة قرن” تستثني القدس بطبيعة الحال، في حين لم تكن لديه أي مشكلة في إيجاد حلول أخرى لقضية اللاجئين، هو الذي اعتبر القول بأنه يريد إغراق الكيان الصهيوني باللاجئين، ضرباً من الدعاية التي تشوّه موقفه كما سمعه الناس يتحدث.

ولكن ماذا لو أدرك الصهاينة استحالة «الصفقة»، ومالوا إلى فكرة «الخطة» التي لا تتطلب توقيعاً من الأساس؟ هل سيقبلها عباس؟

الجواب قائم عملياً، فهو لا يتفاوض منذ بضعة عشر عاماً، لكنه لم يغير قيد أنملة في سلوكه السياسي، إذ يواصل «تقديس» التعاون الأمني رغم قرارات صريحة من المجلس الوطني والمجلس المركزي، كما يواصل حربه على المقاومة، بينما لا يفعل شيئاً على صعيد ما يسميه المقاومة الشعبية السلمية، إذ إنها مجرد شعار لا أكثر، بينما ينعم الصهاينة بالهدوء لولا بعض العمليات التي يقوم بها بعض الشبان بين حين وآخر، ولولا صمود المقدسيين، الذي لا توجّههم السلطة وقيادتها، ويحدث ذلك رغم أن العدو لم يتوقف في أي يوم عن الاعتقالات والقتل، ولا عن الاستيطان والتهويد.

المشكلة في جوهرها بالنسبة لعباس هي في التوقيع لا أكثر، وإذا ما تنازل القوم عنه، فإن العقدة قد تحل، وسيكون بالإمكان تمرير خطة «ترمب»، أعني الخطة التجارية التي لقّنها «نتنياهو» لـ»كوشنر»، ولن تلبث أن تظهر بعد قليل من الوقت.

بهذه الطريقة سنعود إلى «الحل الانتقالي»؛ أي الحل الذي لا يتطلب توقيعاً، وإنما يكرّس وضع الحكم الذاتي القائم مع بعض التحسينات، وترك ما يسمى «قضايا الوضع النهائي» -أي القدس واللاجئين- إلى زمن آخر، ثم يتحوّل المؤقت إلى دائم بمرور الوقت.

ومع موقف «ترمب» الجديد من القدس ومن «الأونروا» كرمز لقضية اللاجئين، يمكن القول: إن القضية قد انتهت من دون الحاجة إلى التوقيع (تلك كانت فكرة «شارون» التي أشرنا إليها سالفاً منذ عام 2000م، وعلى أساسها انسحب من القطاع في عام 2005م).

وإذا ما تم فتح أبواب التطبيع بين الكيان الصهيوني والدول العربية، فإن تحويل المؤقت إلى دائم يصبح أمراً واقعاً على نحو أكثر وضوحاً، إذ ستنفتح أبواب العلاقات السياسية والاقتصادية على مصراعيها، ولا وجود بعد ذلك لصراع، بل مجرد نزاع حدودي لا أكثر.

هذه هي الطريقة الفنية لتصفية القضية دون ضجيج، وحيث يمكن لعباس وقادة «فتح» أن يواصلوا الحديث عن الثوابت بين حين وآخر إذا لزم الأمر، ما لم يعترض البعض على ذلك، بناءً على أن ذلك سيخرّب أجواء التنمية التي تحتاج للهدوء والاستقرار!

هذا هو الخطر الأكبر الذي ينتظرنا، أما أن يجرؤ أي أحد على التوقيع على صفقة تستثني القدس، فهذا غير وارد، لكن النتيجة تبقى واحدة حالياً، وربما مستقبلاً ما لم تحدث تطورات مهمة في الإقليم.

إفشال اللعبة

في الحالتين (الصفقة أو الخطة)، سيتم الحديث عن إدخال الأردن على الخط عبر الضغوط، وذلك بربط سكان الضفة معه دون سيادة على الأرض، بما ينطوي على تكريس لفكرة الوطن البديل أو التوطين، وهو ما يرفضه الأردنيون والفلسطينيون بطبيعة الحال.

أما إفشال اللعبة قبل ذلك، فليس له سوى الشعب الفلسطيني الذي يمكن أن ينتفض ضدها بوصفها عملية بيع بلا توقيع، ويبقى الأمل الآخر ممثلاً في أن يواصل «ترمب»، و»نتنياهو» لعبة الغطرسة، ويصران على التوقيع النهائي، فتفشل اللعبة.

المصيبة هنا تكمن في القيادة الفلسطينية، التي ستعيق تحرك الشارع الفلسطيني التزاماً منها بالتعاون الأمني مع العدو، ووجود السلطة الخادمة للاحتلال، ما يفرض التزاماً على حركة «فتح» للتمرد على هذا الواقع، إذا أرادت الحفاظ على مصداقيتها في الشارع الفلسطيني.

على أي حال، فإن وجود شعب عظيم يرفض بيع قضيته بالمال، ووجود أمة من ورائه لن تقبل ببيع قدسها وأقصاها بأي طريقة كانت هو ما يؤكد أن هذه الخطة ستذهب إلى الجحيم، كما ذهبت مخططات التصفية التي سبقتها، وسيتواصل الصراع حتى كنس الغزاة.

________________

(*) كاتب ومحلل سياسي فلسطيني.ز

Exit mobile version