قراءة في الموقف الأردني الرسمي من “صفقة القرن”

– الأردن يرفض أي تسريبات لـ “صفقة القرن” وأي حل للقضية الفلسطينية على الحساب الأردني 

 الأردن دولة فقيرة اقتصادياً وتعتاش على المساعدات الخارجية وحزمة ضرائب قاسية 

 النظام ذهب للمصالحة المؤقتة مع «الإخوان» لتهدئة الشارع وليتمكن من تحسين شروط التفاوض على «صفقة القرن» 

 الأردن خسر فرصة حقيقية لإدارة تحول سياسي نحو ملكية دستورية كفيلة بإخراجه من الضغوط

الحل النهائي للقضية الفلسطينية أو ما يُطلق عليه إعلامياً «صفقة القرن»، ملامح غير واضحة، وسرية مبالغ فيها حول تفاصيل المشروع الذي يحمله «جاريد كوشنر»، صهر الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب»، وأصبحت الصفقة نفسها معرضة لعدم النجاح والاستمرارية قبل أن تبدأ؛ بسبب عجز «بنيامين نتنياهو»، رئيس الوزراء «الإسرائيلي»، عن تشكيل حكومته والدعوة إلى انتخابات مبكرة في سبتمبر 2019م، واقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2020م التي عادة ما يحجم بها رؤساء الدورة الأولى عن اتخاذ قرارات مصيرية خوفاً من تأثيرها على نتائج الانتخابات كما حصل مع «جورج بوش» الأب أمام «بيل كلينتون».
أطلق العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني «لاءاته» الثلاث في وجه «صفقة القرن» (لا للتوطين، لا للوطن البديل، لا للمساس بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في الحرم القدسي الشريف)، لكن لماذا يرفض الأردن ما يتسرب من «صفقة القرن»؟ وهل الأردن قادر على رفضها؟ وكيف يدير الأردن الرسمي ملف مواجهة هذه الصفقة؟

يرفض الأردن أن تأتي «صفقة القرن» أو حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وذلك من خلال المساس بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، في الأردن أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين، إذ يفوق العدد ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ فلسطيني بأوضاع قانونية مختلفة، منهم مليون ونصف مليون لاجئ لا تعترف بهم الأمم المتحدة كلاجئين فلسطينيين، هؤلاء يحملون الجنسية الأردنية الكاملة ولا يملكون أي وثائق أو أوراق تثبت صفتهم كلاجئين فلسطينيين، كما يوجد في الأردن نحو مليوني لاجئ فلسطيني تقريباً بين حملة بطاقات صفراء ممن شملهم إحصاء «إسرائيل» عام 1967م بعد الاحتلال، وهم مزدوجو الجنسية الأردنية والفلسطينية، وهناك حملة بطاقات خضراء وهم مواطنون فلسطينيون يحملون الجوازات الأردنية المؤقتة بدون رقم وطني، والمقيمون في الأردن من أهل قطاع غزة.

ويرفض الأردن أن يتم إسقاط حق العودة لهؤلاء من حملة البطاقات الصفراء والخضراء والغزيين على حساب الأردن، قرار من شأنه أن يغير في الخريطة الديمجرافية الأردنية، وهذا قد يثير القبائل الأردنية والسكان الأصليين الذين يمسكون بزمام السلطة ويلتفون حول العرش الهاشمي؛ مما قد يؤثر على استقرار الحكم في الأردن.
كما يرفض الأردن أي تسريبات لـ»صفقة القرن» كحل نهائي لا يعترف بالدولة الفلسطينية كدولة مستقلة لها كامل السيادة على أراضيها الفلسطينية، بأن يكون حل القضية على الحساب الأردني من خلال فكرة الوطن البديل بخيار الفيدرالية الكاملة بين الأردن والسلطة الفلسطينية، أو الاتحاد الكونفدرالي بين الضفة الغربية (فلسطين) والضفة الشرقية (الأردن).

يرفض الأردن خيار الفيدرالية كونه يرمي بالكتلة الديمجرافية الفلسطينية والمقيمة في الضفة الغربية حالياً والبالغة أربعة ملايين فلسطيني في الحضن الأردني، كما أنه يرفض الاتحاد الكونفدرالي مع فلسطين قبل الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية كدولة كاملة السيادة.
يرفض الأردن أن تأتي «صفقة القرن» على حق الأردن في رعاية المقدسات الدينية في الحرم القدسي الشريف؛ إذ يتمسك النظام الأردني بالرعاية الهاشمية للمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية في القدس؛ إذ تمثل مثل هذه الرعاية شرعية دينية للنظام الهاشمي وشرفاً سياسياً عربياً وإسلامياً، فالحرم القدسي قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين لدى المسلمين، هذا الحرص دفع النظام الأردني في عام 2013م إلى توقيع اتفاقية بين الملك الأردني والرئيس الفلسطيني، ووردت ضمن نصوص مكونة من مقدمة وثلاثة بنود اتفاقية، حُصر موضوعها ومحل التعاقد فيها بالمقدسات الدينية الواقعة على مساحة 144 ألف متر مربع، وجاءت، كما ورد في نصوصها، لتثبيت ما تضمنه قرار فك الارتباط الصادر عام 1988م بين الضفتين، مع بقاء حق الأردن في رعاية المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية في القدس.
كان حق الوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية في القدس قد نُص عليه بموجب اتفاقية «وادي عربة»، التي وقعت في 26 أكتوبر بين الأردن و»إسرائيل» عام 1994م، وتضمنت هذه الاتفاقية بنداً ينص على الدور الأردني في القدس، حيث جاء في البند الثاني من المادة التاسعة من المعاهدة: «تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن».

الحالة الاقتصادية

الأردن دولة فقيرة اقتصادياً، وتعاني من مشكلات اقتصادية عميقة حيث تعتاش على المساعدات الخارجية وعلى حزمة ضرائب قاسية تفرض على المواطن الأردني، إذ بلغت المساعدات الأمريكية النقدية للأردن عام 2018م نحو 745 مليون دولار، ليصبح مجموع المساعدات الأمريكية للأردن في ذات العام تقريباً 1.08 مليار دولار، كما حصل الأردن على 1.2 مليار دولار مساعدات من دول الخليج وأوروبا، مجموعها يساوي تقريباً ربع الميزانية الأردنية السنوية.

ارتفعت نسبة البطالة في الأردن إلى أكثر من 16% بين الذكور و28% بين الإناث في عام 2019م، وهو بلد يعاني من شح في الموارد الطبيعية وفقر في المياه؛ إذ يعد ثالث أفقر دولة في العالم في المياه، ويستورد 97% من احتياجاته من الطاقة، كما أنه بلد تنحسر به الأراضي الصالحة للزراعة إلى أقل من 7% من مساحته الجغرافية، ويعاني من هجرة رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية نتيجة للإقليم الأمني الملتهب حوله في سورية والعراق وفلسطين، وحزمة الضرائب القاسية التي يتم فرضها على رؤوس الأموال، وتخلف التشريعات الجاذبة للاستثمار الأجنبي، بلد تتردى فيه الحالة الاقتصادية حتى أصبح المناخ مواتياً للضغط على عصب اقتصاده، وفي الوقت نفسه التلويح له بجزرة إسقاط الديون التي بلغت حوالي 41 مليار دولار بنسبة فوائد سنوية بلغت 2.4 مليار دولار لعام 2019م، والتلويح له أيضاً بدعم مالي يصل إلى 45 مليار دولار إذا قبل بـ»صفقة القرن» وبنودها التي يتم تسريبها بين الحين والآخر التي في معظمها تأتي على حساب الخيار الأردني.

خيارات

على المستوى الدولي، قد لا تكون خيارات الأردن كبيرة للمناورة في وجه «صفقة القرن»، فتبديل التحالفات والانتقال من محور لآخر هامش النجاح فيه يصل إلى الصفر، فالانتقال إلى المربع التركي الإيراني الروسي في المنطقة قد يعتبره البعض شبه انتحار سياسي؛ فإيران تعاني من حصار أمريكي خانق يهددها بالفشل، وتركيا تعاني هبوط الليرة التركية والتضخم الذي ضرب اقتصادها، فيما يبدو الروس حليفاً غير موثوق به، وليس له من القوة الاقتصادية التي يعتمد عليها ليكون الحليف البديل عن الحليف الغربي وتحالفه العربي.

في الشأن الداخلي، كان أمام النظام أكثر من خيار لتهدئة الداخل الأردني وتماسكه وضمان الالتفاف حول القرار الرسمي برفض بنود “صفقة القرن”، لكن على ما يبدو ذهب النظام إلى الخيار الأقل تكلفة عليه، من وجهة نظره، الذي يضمن بقاء السلطة وإدارة الدولة على وضعها الحالي، إذ عمد النظام إلى ترميم علاقته مع جماعة الإخوان المسلمين الأم التي حجّم دورها وقلّص نفوذها في سنوات ما بعد “الربيع العربي”، وتسريب رفضه عرضاً عربياً بحظر الجماعة مقابل مليار دينار، واستقباله كتلة التحالف الوطني الممثلة للإخوان في البرلمان، إذ قدر النظام على ما يبدو أن الاستخدام المؤقت للإخوان المسلمين من خلال التلميح المبطن بإعادة الشرعية القانونية لهم، وإعادتهم إلى حضنه مرة أخرى، هو الخيار الأقل تكلفة عليه داخلياً لضمان تهدئة ضغط الشارع الأردني في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية.

وفي الحقيقة نجح النظام الأردني في رمضان من هذا العام من خلال المصالحة المتواربة مع جماعة الإخوان الأم في تهدئة الشارع الغاضب اقتصادياً، وإفشال أي تحرك في الدوار الرابع الذي قادته بعض القوى الحزبية الوليدة التي تظاهرت ضد الفساد الاقتصادي المستشري وحالة اللاديمقراطية السياسية في الأردن وقاطعته جماعة الإخوان الأم رسمياً.

كان أمام النظام الأردني خيار أكثر إستراتيجية في قلب المشهد الداخلي وتحويله من تحدٍّ وضغط إلى ورقة قوة في وجه الضغوطات الخارجية، وذلك بإعلانه التحول للملكية الدستورية ورد سلطة الشعب للشعب الأردني ليحكم نفسه من خلال صندوق الانتخابات، وبذلك يتم تنفيس الضغط الداخلي وتوكيل الشعب في إدارته لشؤونه الداخلية وأزمته الاقتصادية؛ مما يعني إنهاء أي حالة ضغط من الخارج في الملف الاقتصادي، وفي الوقت نفسه ترك الشعب يقرر مصيره ويتحمل مسؤولياته فيما يتعلق بـ”صفقة القرن”؛ مما يجعل الأردن أقوى في مواجهة الضغوطات الأمريكية للقبول بهذه الصفقة داخلياً وخارجياً.

على ما يبدو أن النظام الأردني ذهب إلى خيار المصالحة المؤقتة مع جماعة الإخوان الأم لتهدئة الشارع في الملف الاقتصادي، ووقف المطالب بالإصلاح السياسي لتخفيف الضغط الداخلي عليه وليتمكن من تحسين شروط التفاوض على “صفقة القرن”، كما أن جماعة الإخوان وجدتها فرصة للعودة للشرعية الرسمية وباباً لإعادة ترميم العلاقات بالنظام التي استمرت لسبعة عقود قبل أن تتردى في “الربيع العربي”.

لكن في النهاية، خسر الأردن فرصة حقيقية لإدارة تحول سياسي داخلي نحو ملكية دستورية كفيلة بإخراجه من أزمته الاقتصادية بعد إعادة سلطة الشعب للشعب، ووقف نزيف الفساد، كون الأزمة الاقتصادية عرضاً لمرض الأزمة السياسية وتخلفها، كما كان يمكن التذرع بقرار الشعب وخياراته في وجه الضغوط الخارجية التي تمارس على الأردن.

_______________
(*) كاتب وحقوقي أردني.

Exit mobile version