الأيديولوجيا والهُوية

الهويات ليست من البدهيات، وليست ذاتية الاستمرارية، بل تحتاج دائمًا إلى من يحرسها ويحافظ عليها ويدافع عنها، وإلا فضعفها بل وزوالها سيكون هو المصير المحتوم.

والناظر لخريطة العالم قديمًا وحديثًا سيرى كم من أمة تغيرت هويتها، بل وانمحت من الوجود، وأصبحت أثرًا بعد عين.

وقد تتخلى الأمم عن هويتها طوعًا أو كرهًا.

فالمصريون -مثلاً- تركوا دينهم الذي كانوا عليه وهو النصرانية، ولسانهم الذي كانوا يتحدثون به وهو الديموطيقية، واختاروا طوعًا وحبًّا أن يكونوا مسلمين دينًا، عربًا لسانًا.

وهم لم يفعلوا ذلك مع الرومان ومن قبلهم اليونان، يقول د. جمال حمدان: “أقام اليونان ثم الرومان بأعداد لا يستهان بها بلا شك ولنحو 3 أو 4 قرون، ومع ذلك لم تحدث “أغرقة” ولا “رومنة” لغويًّا ودمويًّا، وقصارى ما نجح اليونان والرومان في تحقيقه هو مزج الكتابة الإغريقية واللاتينية باللغة المصرية القديمة في شكل الديموطيقية التي لم تلبث أن اختفت هي الأخرى”(1).

والإكراه على تغيير الهويات منتشر وغالب؛ فالأمم القوية تسعى -في الغالب- لفرض هويتها على الشعوب الضعيفة، وتنظر بعين الازدراء لها، فلا تحترم دينها أو لغتها أو عاداتها وتقاليدها، وتفرض هويتها فرضًا على الأمم المغلوبة.

وقد تحدث الممانعة والمقاومة لهذا الفرض، أو يحدث الذوبان الجزئي أو الكلّي في الهوية المفروضة.

ومن أجلى الأمثلة وأوضحها على ذلك ما فعله الرجل الأبيض القادم من أوروبا بالهنود الحمر المستوطنين بالأمريكتين (العالم الجديد).

وما فعله الفرنسيون بشعوب قارة أفريقيا التي احتلتهم، وفرضت عليهم لغتها فرضًا.

وقد يحدث في التاريخ أمور على غير ما اعتاده الناس؛ فمثلاً المغول المنتصرون يدخلون في دين المسلمين المنهزمين، وتتغير هوية المغول، ويصبحون بعد ذلك من ناشري دين الإسلام في بلادهم، والبلاد المحيطة بهم والمجاورة لهم.

ولعل ذلك يكمن في قوة الشعوب الإسلامية وقتها في العلم والحضارة وضعف أنظمتها السياسية المنوط بها حماية الشعوب.

والأمم القوية هي التي تحافظ على هويتها، وترابط على ثغورها، أما الأمم الضعيفة المسلوبة فهي التي تفرّط في هويتها وتضيعها.

وهوية الأمم يحمل تاريخها ويتمثل واقعها وحاضرها ويستشرف مستقبلها، والتفريط فيها هو تفريط في التاريخ والحاضر والمستقبل.

ويرى د. ناصيف نصار أن كل جماعة تسعى بكيفية واعية أو غير واعية إلى توكيد هويتها، وتعزيز الشعور بأهميتها بمختلف الوسائل المتاحة.

ويذهب إلى أن الأيديولوجية عندما تتولى مسؤولية إبلاغ هذا السعي إلى غايته يصبح خطاب الهوية على قدر عالٍ من التشعب والتعقيد، سواء من جهة قوى الفكر التي تنتجه، أو من جهة الموضوعات التي تدخل في نطاقه.

ويؤكد أن الهوية الجماعية التي تطرحها الأيديولوجية -كحقيقة قائمة في الوجود الموضوعي- هي حقيقة تاريخية، تكونت في الماضي، وهي مستمرة اليوم، وتريد الاستمرار في المستقبل.

فالعقل الأيديولوجي -حسب وجهة نظره- لا يقدر أن ينفصل في خدمة هذه الحقيقة عن الخيال والذاكرة المشحونة بالعواطف والاستشراف الواعد بالخير.

وهو يرى أن جميع المجالات تخدم هوية الجماعة:

فالعقل الاقتصادي يدرس دور النظام الاقتصادي الذي تعيش الجماعة في ظله في مدى محافظة الجماعة على روابطها، وفي شعورها بقدرتها المادية، وفي تحسين ظروف معيشتها.

والعقل السياسي يتناول هوية الجماعة في علاقتها بالدولة ونظام الحكم المعتمد فيها.

والعقل الثقافي يتناول الهوية نفسها، لكن من زاوية الأنشطة والظواهر الثقافية التي يوفرها الواقع أمامه.

إلا أن هذه العقول جميعها تحتاج إلى العقل التاريخي، وتحتاج إلى أن تعمل كعقول تاريخية؛ لأن مشكلة الهوية الجماعية مشكلة تاريخية بامتياز؛ فالعقل المتقدم في خدمة الهوية الجماعية أيديولوجيًّا هو العقل التاريخي، الذي يدرس الماضي في ضوء الحاضر ومن أجله، ويدرس الحاضر في ضوء المستقبل ومن أجله(2).

فالهوية لا تستغني عن الأيديولوجيا؛ حيث إنها العقل الواعي الحارس لها، والمنظِّر لها، والمستشرف لمستقبلها، والمدافع عنها.

والأيديولوجيا يقوم بها النخبة؛ فهم طليعة المحافظين على الهوية بوعي وتخطيط وتأطير.

والمحافظون على الهوية من غير الأيديولوجيين إنما يحافظون عليها بلا وعي أو تفكير، بل هي محافظة أشبه ما تكون بالأمر الفطري المغروس فيهم، الذي رضعوا لبانه مع حليب أمهاتهم.

وكذلك فإن الأيديولوجيا المعادية للهوية هي التي تعمل على اجتثاثها أو تحجيمها أو إضعافها، وصراع الهويات هو في حقيقته صراع أيديولوجيات.

فاحتياج الهوية للأيديولوجيا لا مفر منه ولا محيد.

 

_____________

الهامشان

(1) شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان (شخصية مصر البشرية)، (2/297).

(2) انظر: الأيديولوجية على المحك، ص 47-49.

Exit mobile version