الأحزاب الدينية في أوروبا

تتجدد أصوات العلمانيين واليساريين في البلاد العربية من وقت لآخر منادين بفصل الدين عن الدولة، ولا شأن للدين بالسياسة، وقد نتج عن ذلك معارك فكرية بين الإسلاميين والعلمانيين كان منها المناظرة المشهور في مصر سنة 1993م حول “الدولة المدنية والدولة الدينية”، ثم الحوارات والمساجلات الفكرية عقب ثورة 25 يناير 2011، ولنتعرف أولاً على أسباب فصل الدين عن الدولة، وهل الدول الأوروبية تفصل الدين عن شؤون الحكم والسياسة؟

أولاً: الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة.. لمحة تاريخية

لقد كانت المقالات التي كتبها في صحيفة “المقطم” عام 1899م أحد المسيحيين الشوام باسم مستعار دعا فيها إلى الفصل بين الدولة والدين، ورد عليه الشيخ محمد رشيد رضا، ويومئذ ثارت أكبر المعارك الفكرية التي عرفتها بلادنا في القرن العشرين حول هذا الموضوع(1).

وقد ذهب الشيخ على عبدالرازق إلى جامعة أكسفورد في بريطانيا، وعقب عودته عُين قاضياً شرعياً، وفي عام 1925م أصدر كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الذي دعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة.

وفي عام 1950 كتب خالد محمد خالد كتابه “من هنا.. نبدأ”، وكان ينتظم أربعة فصول، ثالثها بعنوان “قومية الحكم”، وفي هذا الفصل ذهب إلى أن الإسلام دين لا دولة، وأنه ليس في حاجة إلى أن يكون دولة، ولأن الدين علامات تضيء لنا الطريق إلى الله، وليس قوة سياسية تتحكم في الناس وتأخذهم بالقوة إلى سواء السبيل ما على الدين إلا البلاغ وليس من حقه أن يقود بالعصا من يريد لهم الهدى وحسن الثواب(2).

وبعد أن رجع خالد محمد خالد عن آرائه رد على آرائه السابقة في كتاب مستقل بعنوان “الدولة في الإسلام”، أوضح أن الذي دفعه للقول السابق “تأثري الشديد بما قرأت عن الحكومات الدينية في أوروبا”(3).

وقد امتد ذلك الفكر إلى الرئيس السادات الذي كان كثيراً ما يكرر مقولته المشهورة: “لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة”، وقد امتدت تلك الدعوة حتى يومنا هذا، فيخرج علينا بعضهم من حين لآخر ينكر وجود علاقة بين الإسلام والسياسة بالرغم من أن أوروبا قبلتهم في الحرية والديمقراطية لم تحجب الدين عن السياسة.

ثانياً: انتشار الأحزاب الدينية في أوروبا

انتشرت في أوربا الأحزاب التي تحمل أيديولوجية فكرية ودينية في أوروبا، ومنها الشيوعية والليبرالية والاشتراكية وغيرها حتى لا يخلو منها بلد أوروبي، ومنها: في إسبانيا: الحزب الشيوعي(4)، وفي إيرلندا: الحزب الشيوعي الإيرلندي(5)، وفى بلغاريا: الحزب الشيوعي(6)، وفي النرويج: الحزب الاشتراكي اليساري (SV)، والحزب المسيحي الشعبي ( KRF kristelig Folkepart) الذي تأسس في عام 1933(7)، وفي بلجيكا: الحزب المسيحي الاشتراكي(8)، وفي إسبانيا: حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي   F D C))(9).

ثالثاً: النشاط الديني للأحزاب السياسية في أوروبا

وقد قامت الأحزاب الدينية في أوروبا بأنشطة دينية دون أن يعرقل نشاطها نظامها العلماني، ولنأخذ أمثلة من النشاط الديني للأحزاب السياسية في أوروبا:

1- الحزب المسيحي في ألمانيا:

في ألمانيا يوجد حزبان مسيحيان، هما: حزب الاتحاد المسيحي الألماني الديمقراطي C D U))(10)، وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي(11).

ويُعرِّف الحزب الديمقراطي المسيحي نفسه بأنه حزب “يملك مفهومًا سياسيًا قائمًا على القيم المسيحية وعلى مسؤولية الفرد أمام الرب”، ويشدد في برنامجه الأساسي على أنه حزب ديمقراطي ليبرالي محافظ يلتزم بجذور أوروبا التاريخية، ونجح في الحفاظ على نوع من التدين المعتدل وعلى ثقله السياسي بصفته إحدى الركائز السياسية للمنظومة السياسية الألمانية دون التخلي عن أهداف وروح الدستور الألماني(12).

وبالرغم من أن الدستور الألماني لا يشير إلى الدين، فإن تأثير الديانة المسيحية يبقي حاضراً من خلال الحزب الديمقراطي المسيحي الذي يمثل التيار المحافظ في الطيف السياسي الألماني، والدول الأوروبية التي تعيش فيها أغلبية كاثوليكية مثل بولندا وإيطاليا ومعها أحزاب المعارضة المسيحية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، أصرت على الإشارة إلى الدين المسيحي كجزء لا يتجزأ من الهوية الأوروبية(13).

وعندما نقف على تاريخ حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU) في ألمانيا ونشاطه السياسي -الحزب الحاكم حالياً- الذي ترأسه أنجيلا ميركل (Angela Merkel) نجده حزباً سياسياً يتبنى الأيديولوجية الديمقراطية المسيحية وانبثق من الحزب الكاثوليكي الألماني، ويُعد أكبر حزب سياسي من حيث عدد العضوية بألمانيا، وتأسس عام 1945 بهدف تجميع القوى المسيحية الخارجة من أتون الحرب العالمية الثانية في كيان واحد، وقد وضع لنفسه عند انطلاقه برنامجاً سياسياً يقوم على 3 ركائز أساسية، هي القيم المسيحية، والديمقراطية، والليبرالية(14).

وفى أغسطس 1949 استطاع الحزب الديمقراطي المسيحي أن يحصل على أعلى أصوات الأحزاب فحصل على 31% من أصوات الناخبين وأصبحوا بذلك القوة السياسية الأولى في البلاد، ونتيجة لذلك انتخب كونراد أيناور أول مستشار لألمانيا الحديثة الفيدرالية من الحزب الديمقراطي المسيحي(15).

وحكم الحزب ألمانيا 39 عاماً من أبرزها فترتا حكم المستشارين كونراد أدينا ور (1949 – 1963)، وهلموت كول (1982 – 1998)، وقضى 23 عاماً بمقاعد المعارضة، وأدى دوراً سياسياً مؤثراً بالساحة الأوروبية من خلال عضويته باتحاد الأحزاب الشعبية الأوروبية، ويجسد المسيحي الديمقراطي تأثير الدين على السياسة بألمانيا التي تعطي للمذهبين البروتستانتي والكاثوليكي دور المرجعية القيمية والأخلاقية بالبلاد، ويلتزم الحزب في كثير من الأحيان بتصورات الكنائس بعمله السياسي(16)، وقد عاد الحزب المسيحي لرئاسة الحكومة مرة أخرى منذ 22 نوفمبر 2005 برئاسة أنجيلا ميركل.

2- الحزب الديمقراطي المسيحي في سويسرا:

وفي سويسرا العلمانية، يوجد أحزاب مسيحية تمارس السياسة والتربية كذلك على مبادئ المسيحية، وبالرغم من أن نظام الحكم في سويسرا علماني، فإنها لم تمنع قيام أحزاب تتبنى القيم المسيحية، ومنها الحزب الديمقراطي المسيحي، ويعرف بالحزب المحافظ، وقد تأسس في عام 1912، وأعضاؤه من المسيحيين الكاثوليك ويطالب بالتربية المسيحية، وهو متشدد في فرض الضرائب الباهظة على الكُحُل والتبغ، ونال 46 مقعداً في البرلمان السويسري في انتخابات 1979 في حين فاز الحزب الاشتراكي في نفس الانتخابات بـ 55 مقعداً، وفاز الحزب الراديكالي الديمقراطي بـ47 مقعداً، ونال حزب الوسط لاتحاد الديمقراطيين 46 مقعداً(17).

إن بدعة فصل الدين عن السياسة قد تنعدم في أوربا العلمانية التي لم تحظر قيام أحزاب مسيحية تمارس نشاطاً سياسياً ودينياً، وتحرص على التربية المسيحية، وفي المقابل يحاول الليبراليون خداعنا بدعوة فصل بين الدين والسياسة على نحو ما فعلت أوروبا.

 

__________

الهوامش

(1) د. محمد عمارة: طه حسين والحكومة الإسلامية، جريدة المصريون، القاهرة، بتاريخ 9/ 8/ 2011.

(2) خالد محمد خالد: الدولة في الإسلام، المقدمة ص 7.

(3) السابق: ص 10.

(4) د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون: الموسوعة السياسة ج 1، ص 164.

(5) السابق: ج 1، ص 434، 558.

(6) راجع: موقع الموسوعة الحرة: النرويج.

(7) الموسوعة السياسية: (النرويج) ج6، ص 569.

(8)السابق: (بلجيكا )، ج 1، ص 553.

(9) السابق: ج 1، ص 164.

(10) السابق: ج 1، ص 272.

(11) السابق: ج 2، ص 268.

(12) السابق، نفس الصفحة.

(13) راجع: موقع “DW – World. De Deutsche Welle”، مقال مترجم تحت عنوان “الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني واستحقاقات الديمقراطية، ملف: الانتخابات الألمانية”.

(14) الجزيرة نت الإثنين 2/ 5/ 1432هـ – 4/ 4/ 2011م الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني.

(15) الموسوعة السياسة ج 1، ص 272.

(16) الجزيرة نت الإثنين 2/ 5/ 1432هـ – 4/ 4/ 2011م الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني.

(17) الموسوعة السياسية: (سويسرا) ج 3، ص 353.

Exit mobile version