– التلمساني أحد أركان دعوة “الإخوان” وقادتها الذين تحملوا الصعاب وتخلى عن حياة الترف لنصرتها
– خالد لم يداهن أحداً ولم يعط الدنية من وطنه ودينه ما جلب عليه حقد النظام السوري بلبنان
– الإبراهيمي جابه الصف الداخلي خاصة المتاجرين بالدين قبل أن يبدأ حربه ضد الاستعمار الفرنسي
إن حاجة الأمة إلى العلماء والقادة الربانيين فوق كل الحاجات؛ لأنهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى؛ فحياتهم غنيمة وموتهم مصيبة.
في هذه الزاوية، نحاول أن نتعرف على بعض آثارهم لنسير على نهجهم ونقتفي أثرهم، ونستعرض في هذه السطور ثلاثة من الأعلام الذين رحلوا في مايو.
عمر التلمساني.. ربانية القيادة
عمر عبدالفتاح التلمساني اسم سُطر في قلوب محبيه قبل أن يُسطر في صحائفهم؛ لسجيته السمحة، وترفعه عن الدنيا التي جعلت رئيس مصر –حينها- يقول له حينما رفع شكواه إلى الله بعد أن هاجمه الرئيس بادعاءات باطلة: “إنني لم أقصد الإساءة إلى الأستاذ عمر ولا إلى الإخوان المسلمين، اسحب شكواك يا عمر”.
إنه عمر التلمساني الذي خرج في جنازته جميع أطياف المجتمع بل والمؤسسات الرسمية، سواء الإسلامية أو الكنسية.
ولد عمر عبدالفتاح عبدالقادر مصطفى التلمساني في 4 نوفمبر 1904م، في حارة حوش قدم بالغورية قسم الدرب الأحمر بالقاهرة، في أسرة أصلها من تلمسان بالجزائر، وكان جده من أصحاب الأملاك، وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة الملك فؤاد (القاهرة حالياً)، وعمل بالمحاماة في شبين القناطر.
تعرف التلمساني على الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، عام 1933م، ومنذ ذلك الحين أصبح أحد أركان دعوة الإخوان وقادتها الذين تحملوا الصعاب والشدائد، وتخلى عن حياة الترف من أجل نصرتها، فاختير عضواً لمكتب إرشادها في وقت مبكر، وتعرض للمحن من أجلها فاعتقل عام 1948م، وكان واحداً من الذين شاركوا في تقرير مصير ثورة 23 يوليو بالتوافق مع الضباط الأحرار، غير أن الصدام بين الطرفين عام 1954م غيّبه خلف القضبان حتى عام 1971م ليخرج بجسد كهل وقلب الشباب، فيعمل مع إخوانه على إعادة ترتيب أوراقهم والانطلاق من جديد، حتى اختير مرشداً عاماً لهذه الجماعة خلفاً للمستشار حسن الهضيبي، ليقود سفينة الجماعة في هذه الظروف المدلهمة بحكمة وتروٍّ وسعة صدر وفطنة عالية، وانفتاح على الجميع.
ولم ينس التلمساني وطنه؛ فسـخّر قلمه لمحاربة الفساد، والتصدي لمعاهدة السلام التي وقعها الرئيس المصري الراحل السادات مع اليهود، وظل التلمساني صاحب الكلمة العليا في كل المحافل، والتنزه عن الدنيا في كثير من القضايا حتى وصفه إبراهيم سعدة، رئيس تحرير “أخبار اليوم”، حينما مات بقوله: “مات عمر التلمساني، صمام الأمان، لجماعة، وشعب، ووطن”(1).
كما وصفه وقال عنه المفكر اليساري أحمد بهاء الدين بقوله: “تركت وفاة المرحوم عمر التلمساني، مرشد عام الإخوان المسلمين، مذاقاً مراً لدى جميع الناس”.
ووصفه الأستاذ خالد محمد خالد بقوله: “عمر التلمساني وحده، مَعْلم من معالم هذه الدعوة بما أورثته من هدى ونور! ولقد كان الرجل المناسب في الوقت المناسب لقيادة الإخوان المسلمين”.
وقالت عنه السيدة زينب الغزالي: “عرفته، فقرأت في تقاسيم وجهه الحب لكل الناس”.
وكتب أنطون سيدهم، رئيس تحرير صحيفة “وطني” لسان الكنيسة، في 25/5/1986م: “توفي إلى رحمة الله الأستاذ الكبير عمر التلمساني بعد معاناة مع المرض، فشق نعيه على عارفيه في مصر وفي العالم الإسلامي الذي يعرف كفاحه من أجل الدعوة التي حمل لواءها، وامتاز فيها بأصالة الرأي ورحابة الصدر واتساع الأفق وسماحة النفس؛ مما حبب إليه الجميع من إخوانه ومواطنيه، كما كانت علاقته بإخوانه الأقباط علاقة وثيقة عميقة تتسم بالتفاهم التام والحب والصداقة”.
وهكذا، فقد رحل الأستاذ عمر التلمساني بعد أن ترك ذخيرة من العلم والأخلاق وحب الناس في 22 مايو 1986م(2).
حسن خالد.. الفقيه الورع
ما أروع أن يحيا العالم بعلمه وسط الناس؛ فيكون كالريحانة التي تشيع برحيقها على من يقترب منها فتترك فيه أعظم الأثر.
في مدينة بيروت بلبنان عام 1340هـ/ 1921م ولد الشيخ حسن سعد الدين خالد، وتخرج في الكلية الشرعية ببيروت عام 1359هـ/ 1940م، وبعدها أوفده مفتي لبنان إلى الجامع الأزهر بمصر حيث حصل على ليسانس أصول الدين عام 1946م.
وإثر عودته إلى بيروت، عُيّن “كاتباً” في المحكمة الشرعية فيها، ثم ترقّى إلى درجة “رئيس قلم” قبل أن يُختار “قاضياً” في محكمة عكار الشرعية، ثم نقل إلى محكمة محافظة جبل لبنان عام 1960م.
عرف عن الشيخ خالد ورعه في عمله وتصرفاته إلى أدق الأمور، لكنه في تفكيره كان منفتحاً متحرراً؛ وهو ما أهَّله لأن يحظى بإجماع طوائف المجتمع اللبناني؛ فكان ذلك دافعاً لتوافق العلماء والزعماء وأهل الرأي على اختياره لمنصب الإفتاء في الجمهورية اللبنانية يوم الأربعاء 21 ديسمبر 1966م، عندما استعفى الشيخ محمد علايا من منصب الإفتاء بسبب الشيخوخة(3).
كان المفتي حسن خالد عضواً دائماً في كل جلسات المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وعضواً في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بالقاهرة، وعضواً بالمجلس الأعلى للمساجد العالمي، وعضواً بلجنة إنقاذ القدس، وعضواً في الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت.
زخرت المكتبات بالعديد من كتب الشيخ التي يتضح منها سعة أفقه وغزارة علمه، حتى إنه نال العديد من الأوسمة والأوشحة من العديد من دول العالم لمواقفه في التعامل مع القضايا المحلية والدولية خاصة قضية فلسطين.
وكان الشيخ خالد حريصاً على دينه، فلم يداهن أحداً ولم يعط الدنية أبداً من وطنه أو دينه؛ وهو ما جلب عليه حقد النظام السوري الذي كانت له اليد الطولي في لبنان بتلك الفترة.
ظل الشيخ على عهده مع الله في الدفاع عن دينه حتى يوم الثلاثاء 11 شوال 1409هـ الموافق 16 مايو 1989م؛ حيث لقي ربه، إثر انفجار سيارة ملغومة قرب سيارته، وهو ما أدى إلى مقتل 16 شخصاً.
وقد رثاه الشاعر عمر بهاء الدين الأميري بقصيدة، جاء فيها:
قتلتموه فسما خالداً مبوأ مقعده في السماء
فعشتم في حومة من الردى هلكى.. وغرقى في الدماء(4)
محمد البشير الإبراهيمي.. شيخ الجزائريين
في بلد اتسم أهله بغيرتهم على دينهم ووطنهم؛ فقدموا ما يزيد على مليون شهيد من أجل حريتهم، ولد محمد البشير بن محمد السعدي بن عمر الإبراهيمي يوم الخميس 13/10/1306هـ في بلدة سطيف، ونشأ فيها.
ينتسب البشر إلى قبيلة “ريغه” الشهيرة؛ حيث حرص والده على أن يتقنه العلم فتنقل من بلد لآخر لتحقيق هذا الهدف؛ حيث سافر إلى المدينة المنورة، ومنها إلى دمشق عام 1921م قبل أن يعود إلى وطنه الجزائر ليشارك صديقه الشيخ عبدالحميد بن باديس لإنشاء “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” عام 1931م، وتولى ابن باديس رئاستها والإبراهيمي نائباً له.
أبعد الإبراهيمي إلى صحراء وهران عام 1940م، وبعد وصوله إلى معتقل الصحراء بأسبوع توفي الشيخ ابن باديس، فقرر رجال الجمعية انتخاب الإبراهيمي لرئاستها، واستمر في معتقل “أفلو” الصحراوي من عام 1940م إلى 1943م.
وبعد إطلاق سراحه أنشأ في عام واحد 73 مدرسة وكتّاباً، وكان الهدف نشر اللغة العربية، وفي عام 1945م زُجّ به في السجن العسكري ولقي تعذيباً شديداً من قبل الفرنسيين، ثم أُفرج عنه، فقام بجولات في أنحاء الجزائر لتجديد النشاط في إنشاء المدارس والأندية والكتاتيب، ثم استقرّ به المقام عام 1952م بالقاهرة.
وحين اندلعت الثورة الجزائرية عام 1954م قام برحلات إلى الهند وغيرها لإمداد الثورة بالمال والسلاح.
كان العلاّمة الإبراهيمي عالماً في الفقه والتشريع واللغة والأدب، وخطيباً مفوّهاً وشاعراً كبيراً يهزّ المنابر بجزالة ألفاظه(5).
اتصف الشيخ بأعلى مهارات التخطيط الإستراتيجي حينما قرر أولاً مجابهة الصف الداخلي خاصة المتاجرين بالدين، ومشايخ الطرق المؤثرين في الشعب، والمتعاونين مع الاستعمار عن رضا وطواعية، وذلك قبل أن يبدأ حربه ضد الاستعمار الفرنسي وكأنه يستقرئ الواقع الآن.
ترك الإبراهيمي عشرات المؤلفات، منها: “شعب الإيمان”، “حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام”، “الاطّراد والشذوذ في العربية”، “أسرار الضمائر العربية”.
وظل الشيخ الإبراهيمي يحمل هم دينه ووطنه حتى توفي في منزله، وهو رهن الإقامة الجبرية يوم الجمعة 20 محرّم 1385هـ الموافق 21 مايو 1965م(6).
_____________
الهوامش
(1) عمر التلمساني: ذكريات لا مذكرات، ط 1، دار الاعتصام، 1985م.
(2) الأستاذ عمر التلمساني.. رجل اجتمعت عليه الأمة:
(3) الشيخ حسن خالد.. مفتي لبنان: موقع إخوان ويكي،
(4) أمل عيتاني، عبدالقادر علي وآخرون: الجماعة الإسلامية في لبنان منذ النشأة حتى 1975م، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2009م.
(5) عبدالله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية، الجزء الأول، طـ7، دار البشير، 2008م، ص802.
(6) أبو القاسم سعدالله: البشير الإبراهيمي في قلب المعركة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1994م، ص16 وما بعدها.