عشرون بحاراً أندلسياً

من مَفَاخِر التاريخ الإسلامي، والأندلسي هنا بالذات، أن تكون فيه أمور مثيرة للإعجاب، في أكثر مِنْ مَظْهَر؛ إنجازٌ غيرُ متوقَّع مرةً، وأخرى ضَيَاعُها عن الذاكرة بسبب اختفاء أخبارها، التي أفاضت فيها غيرُها، جَمَعَتْ الغَثَّ الكثير، سَاعَدَ على شيوعها شحٌ فيما عداها.

عشرون بحاراً أندلسياً، لا نَعْرِفُ اسمَ أيٍّ أَحَدٍ منهم، استقلوا قارباً أبحروا بسفية مِنَ الساحل الشرقي الأندلسي على البحر المتوسط، تَقَدَّموا به مُسَاحِلين شَمالاً نحو سنة 277هـ/ 890م، ماذا تُراهم يُريدون، ما سِرُّ قوتهم وحقيقةُ دوافعهم، لِتَحَمُّل ذلك وخَوْض غِمَار المجهول وامتطاء غَمَراتِ المَخَاطِر هناك، متجهين شَمالاً حتى وصلوا منطقة البروفانس (Provence) جَنوبي فرنسا، حيث رَسَتْ سفينتُهم، نَزَلُوا هناك وأخذوا يبحثون عن مكان آمن يستقرون فيه، اهتدوا إلى بُغيتهم داخلَ غابة كثيفة مِنْ شَجَر الدَّرْدار(1) (الدِّقْلَى).

أقاموا عند قمةٍ جبلية شَمال مرسيليا (Marseille)، عُرِفَ أندلسياً: “جبل القِلال”، ولاتينياً: “Fraxinetum”، وأوربياً: “Fraxinete Fraxinet”، كان ذلك الموقع البارز البارع الذي يدل اختيارُه على حنْكَة وحكمة وخبرة، أقاموا عدة معاقل وحصون كان أمنَعُها المكانَ الذي يقوم على جبل مرتفع داخل غابات كثيفة تحيط به يسمى لاتينياً “Fraxinetum” مشتق من اسم شجرة الدَّردار الكثيرة هناك.

ما إنْ وصلوها، بينها وبين “Nice” (نيقة)، عند خليج سان تروبيس (Saint-Tropes) شَمال مدينة طولون (Toulon) في منطقة البروفانس عند سفوح جبال الألب (Alps: Mts.)، حيث الآن جبال المُور (massif des maures)، تقع عليها قرية غارد فرينيه (Garde- Freinet)، ما إن وصلوها حتى نزلوا فيها باحثين عن مكان آمن، يتخذونه قاعدة لهم، ليبدؤوا مهمتهم.

لكن اسمه في مصادرنا الإسلامية “جبل القِلال”(2) (جبل القِمَم)، كان ذلك حوالي سنة 277هـ/ 890م أيام الأمير الأندلسي عبدالله حفيد الأمير عبدالرحمن الأوسط، وجَدُّ الخليفة عبدالرحمن الناصر، تقاطر عليهم الأتْباع من الأندلس والمغرب، أقاموا دولة استمرت قرابة قَرْنٍ من الزمان!

المتوافر من مصادرنا تسميهم «المجاهدين»، لكن المصادر الأوروبية تسميهم القَراصِنَة (Pirates, Piratas)، والقرصنة (Piracy Pirateria) لكن استقراء الأحداث واستكناه ما تدخره مضامينُها واعتبارَ أبعاد أمثالها تدل على أنهم فعلاً ذهبوا مُجاهدين، لا هاربين ولا ناهبين ولا معتدين.

انظروا أيّ همة عالية كانت تملأ نفوسَهم، وقوةٍ مُتَوقِّدة أخذتهم إلى هناك وهدفٍ سامٍ جعلهم يتحملون كل ذلك؟ لا شك أنه الجهاد في سبيل الله، ونشر دينه في تلك المناطق، قياماً بما لم تنجزه معركة “بلاط الشهداء” سنة 114هـ/ 732م، لكن بأُسلوب آخر بالدعوة دون قِتال، الذي أُجْبِروا عليه دفاعاً عن النفس والبقاء؛ فهم لم يذهبوا هذه الوجهة ويسعوا لهذا المطلب واحتمال السير إلا لذلك. لا بد أنهم عَرَفُوا مِنَ الأخبار هناك ووصلت أنباءُ أحوالها وأَسْبَقُوا سفرَهم بطلائع أتتهم بالأخبار، بجانب المعلومات السابقة، كما هي العادة في مثل هذه الآثار، لا أُبْعِدُ أبداً أن يكونوا عَلِمُوا بوجود بعض المسلمين هناك، بقايا الفتوحات الإسلامية السابقة لتلك المناطق(3)، أو جاء وَفْدٌ يَحْمِلَ إليهم هذه الأنباء، فلَبَّوْا النداء واستجاشوا للفداء، فانطلقوا بالولاء للبناء الفاضل وإقامة الحضارة الإنسانية الكريمة.

____________________

الهوامش

(1) شجر عظيم  له زهر أصفر وثمر كقرون الدِّفْلَى، يُغرس على حافة الطريق للزينة والظل والخضرة.

(2) رسالة الدكتوراه:Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe during the Umayyad Period, pp. 209-226. والترجمة العربية لها: العَلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية خلال المدة الأموية (المجمع العلمي– أبوظبي، 273-297. كذلك: التاريخ الأندلسي*، ص 318 وبعدها.

(3) التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، ص 185 وبعدها.

Exit mobile version