الرعاية النفسية في ماليزيا.. خطط طموحة ونتائج دون التوقعات

– عام 1961م تخرج أول طبيب نفسي وفي عام 1967م افتتح أول مركز لإعادة تأهيل المصابين بأمراض عقلية

– يوجد 128 مستشفى حكومياً بها 30 ألف سرير و6 مؤسسات للصحة العقلية و6 مستشفيات غير حكومية

– الملايو يعتقدون أن المرض العقلي لا يعد مرضاً طبياً بل تفاعلات روحية!

– نقص الموارد البشرية والمعتقدات الخاطئة يمثلان العائق الأكبر أمام تحقيق الخطط الطموحة

 

عندما كانت ماليزيا تحت الاحتلال البريطاني لم تكن حكومة الاحتلال معنية بتقديم الخدمات الصحية بكافة أنواعها إلا إلى العمال في المناجم، ومزارع المطاط، والعاملين في السكك الحديدية وأمثالهم ممن تحتاجهم لدوران دولاب الإنتاج والصناعة، أما عموم المواطنين في القرى والغابات النائية فلم يكن تقديم الرعاية الصحية لهم على جدول أعمالها، وحين حصلت ماليزيا على استقلالها عام 1957م لم يكن في طول البلاد وعرضها سوى مستشفى وحيد لعلاج الأمراض النفسية والعقلية والجذام، ولعل اسم المستشفى وحده ينم عن مستوى الخدمة، حيث لم يكن مستشفى بالمعنى المعروف، أكثر من كونه مكاناً لحجز المرضى وحجبهم عن المجتمع.

يجب التأكيد أن الرعاية النفسية ليست ترفاً ولا رفاهية؛ فوفقاً لرئيس «جمعية الصحة الطبية الماليزية»، د. أندرو موهانراج، فإن الاكتئاب يأتي في المرتبة الثانية عالمياً كسبب رئيس للإعاقة، وتشير التنبؤات إلى أنه بحلول عام 2030م سيكون في المرتبة الأولى متخطياً أمراض القلب والأوعية الدموية، وهذا لا يعني فقط فقدان بعضٍ من سنوات الإنتاجية لشخص ما، بل فقدان الكثير من الأرواح، فالناس يُقْدمون على الانتحار دون فرصة للحصول على المساعدة اللازمة في الوقت المناسب.

يعتقد الباحثون أن ثورة توفير الرعاية الصحية العقلية بدأت عندما تم افتتاح أول جناح للصحة العقلية في مستشفى «بينانج العام» عام 1958م، فقد كانت المرة الأولى التي يتم فيها علاج المرضى النفسيين في مستشفى عام، وفي عام 1961م تخرج أول طبيب نفسي ماليزي من المملكة المتحدة، ثم في عام 1967م تم افتتاح أول مركز لإعادة التأهيل المجتمعي للأشخاص المصابين بأمراض عقلية في مدينة «Ipoh» التابعة لولاية «Perak».

ثم شهد العام 1975م تخرج أول ثلاثة أطباء نفسيين مدربين محلياً من الجامعة الأعرق في ماليزيا وآسيا «جامعة مالايا»، وبحلول عام 1995م كان ما يقرب من 100 طبيب ماليزي يمارسون المهنة في المستشفيات.

في البداية كانت خدمة الرعاية النفسية مركزية لأبعد مدى، فقد قامت أربعة مستشفيات كبرى، هي «Bahagia»، و«Permai»، و«Sentosa»، و«Bukit Padang» بتقديم الرعاية النفسية حصرياً، التي بلغت طاقتها الاستيعابية القصوى 5 آلاف حالة سنوياً، ثم شرعت وزارة الصحة في تطبيق خطة «لا مركزية الرعاية النفسية»، وتم تزويد جميع المستشفيات الحكومية الأخرى بوحدة نفسية للتعامل مع المرضى من الولايات المختلفة قبل نقلهم إلى هذه المؤسسات المركزية إن استدعى الأمر.

حسب تقارير وزارة الصحة الماليزية في عام 2017م، يوجد للرعاية النفسية 128 مستشفى حكومياً تبلغ طاقتها الاستيعابية القصوى 30 ألف سرير، و6 مؤسسات للصحة العقلية، و6 مستشفيات غير حكومية بها 2688 سريراً، و233 ما بين عيادة خاصة، ودار رعاية تضم 11637 سريراً مع شبكة واسعة من أنظمة الرعاية الصحية وأكثر من 100 مركز للرعاية الأولية للمرضى الذين لا تستدعي حالتهم البقاء في المستشفى(1)، ومن المؤكد أنه بالمقارنة مع 4 مؤسسات مركزية فقط، فقد أصبحت الخدمة أفضل من ذي قبل.

تضارب إحصاءات

في عام 2006م شكَّل الإحصاء الرسمي الذي أفصحت عنه وزارة الصحة الماليزية بوصول معدلات الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية إلى 10.7% من الشعب الماليزي صدمة للمجتمع العلمي؛ لأن المهتمين بهذا المجال كانوا يدركون أن الأرقام التي أعلنتها وزارة الصحة إنما تعتمد على السجلات الرسمية، وهي بالطبع لا تعكس الحجم الحقيقي للمعاناة، وأن الأرقام الفعلية قد تكون ما بين ثلاثة إلى أربعة أضعاف.

لذلك لم تكن الدراسة التي صدرت في مارس 2016م غريبة ولا صادمة، حيث أعلنت دراسات مستقلة(2) أن نسبة الاكتئاب بين الماليزيين فاقت 29%، إلا أن الدراسة دقت ناقوس الخطر، فتوجه عدد من الخبراء الماليزيين بمناشدات إلى وزير الصحة الجديد -في حكومة د. مهاتير محمد- د. ذو الكفل بن أحمد أن يضع الرعاية الصحية العقلية كأولوية في قائمة مهامه، نظراً لأن الاكتئاب أصبح يصيب واحداً من بين كل ثلاثة ماليزيين.

تحدد «الخطة الإستراتيجية الوطنية للصحة العقلية» التي تم إطلاقها في عام 2016م لمدة 5 سنوات أولويات الصحة العقلية للحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، لكنها فشلت حتى الآن في التأثير بشكل كبير في معالجة القضايا الحرجة.

عقبات في الطريق

ماليزيا دولة متعددة الثقافات، ولكل ثقافة تصوراتها ومعتقداتها حول الاعتلال النفسي، وهو ما يمثل أحياناً عائقاً نحو الوصول الآمن إلى العلاج الصحيح، ففي الثقافة الهندية يعتقد أن المرض النفسي ينشأ عند تعطل الانسجام بين الإنسان والمجتمع، وينصح المصاب أن يحافظ على نفسه في بيئة بدائية ليعزل عقله عن صخب المعارف والخبرات!

وفي الثقافة الصينية يرجعون المرض بنوعيه النفسي والجسدي إلى عوامل: الغذاء، والمشاعر، والإنجاز الأسري لتعزيز شرف العائلة، وعلى الإنسان حتى يتجنب الوقوع في الأمراض أن يهتم بهذه العوامل الثلاثة.

أما في ثقافة الملايو، فينظر إلى العوامل الروحية والدينية كأجزاء حيوية في الصحة العقلية، حتى إن الترجمة الحرفية للمرض النفسي في لغة الملايو «Sakit Jiwa» هي «مرض الروح»، وهناك مفهوم شائع بين الملايو أن المرض العقلي لا يعتبر مرضاً طبياً، إنما تفاعلات روحية أو عقاب اجتماعي.

وتربط الثقافة الملايوية بين المرض النفسي والأسباب الخارقة للطبيعة، مثل: السحر، والحسد، وتأثيرات عالم الجن، أو تعدي المريض على المقدسات الدينية، أو الضعف الروحي! وتدفع هذه المعتقدات عموم الناس إلى طلب التوجيه من المعالجين التقليديين الذين يظن بهم القدرة على تخليص الفرد وعلاجه من هذه الأمراض النفسية.

خطوات العلاج

حدد المعنيون بالرعاية النفسية ثلاثة أوجه للقصور على كل الأطراف المعنية العمل على معالجتها، هي:

– تأهيل العاملين في مجال الرعاية النفسية؛ صحيح أن تدريب الممارسين في هذا المجال طويل ومكلف، إلا أن كلفة المجتمع مع التقصير أعظم وأخطر، وقد لاحظ الباحثون أن نقص الخبرات البشرية المدربة يمنع ذوي الأشخاص المصابين من طلب المساعدة.

– حماية المصابين من التمييز خاصة في مجالي العمل والدراسة.

– التوعية المجتمعية لفهم طبيعة المرض النفسي، ونشر الوعي الصحيح ومحاربة الخرافات بين الثقافات المختلفة.

على مستوى البحث العلمي، هناك الكثير من الدراسات حول رعاية الأسرة للأمراض العقلية في الثقافات الغربية، لكنها لا تزال فقيرة جداً في الثقافات الشرقية، وبالتالي فإن الحاجة ملحة إلى دراسات تقدم فهماً أعمق، وتعزز من تجارب مقدمي الرعاية الأسرية، وخاصة في البلدان النامية(3).

وفي مجال الحماية القانونية، يغطي «قانون الصحة العقلية» لعام 2001م ولوائحه الخدمات في مرافق الصحة النفسية الحكومية والخاصة، ودور التمريض النفسي، ومراكز الصحة العقلية المجتمعية، كما أنه ينظم رعاية الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عقلية، ويضع القانون معايير خدمات الطوارئ، ورعاية المرضى الداخليين، والرعاية السكنية، والعلاج بالصدمات الكهربائية، وحقوق المرضى.

خلصت التقارير والدراسات الميدانية والعلمية إلى نتيجة تكاد أن تكون محل إجماع، أنه على الرغم من منحنى التطور الواضح في مجال الرعاية الصحية للأمراض النفسية والعقلية، فإن نقص الموارد البشرية، والمعتقدات والثقافات الخاطئة، يمثلان العائق الأكبر في سبيل تحقيق الخطط الطموحة.

 

__________

الهوامش

(1) نقلاً عن التقرير السنوي لوزارة الصحة الماليزية 2017م.

(2) صحيفة «STAR» تقرير عن أداء الرعاية الصحية النفسية بتاريخ 13/ 3/ 2018م.

(3) تطوير الرعاية النفسية في ماليزيا.. التاريخ والواقع والتحديات، تقرير معهد بينانج للدراسات الاجتماعية 2018م.

Exit mobile version