الجزائر.. والحكم بـ”العلبة السوداء”!

لست الرب لنؤمن بوجودك دون أن نراك “عبارة مرفوعة بأيدي أحد ثوار الجزائر، يرفعها لنقرأها جميعاً داخل الجزائر وخارجه لعلها تكون دستوراً بعد ذلك يحمينا من حكم “العلبة السوداء” التي اخترعها بوتفليقة لتحمي ملكه وتحكم بدلاً عنه في حال غيابه.

لعل الشعب الجزائري أدركها الآن فخرج رافضاً حكم “العلبة”، مطالباً بحاكم فعلي للبلاد.

انتفاضة الجزائر التي اندلعت منذ أسابيع قليلة ولكنها مستمرة ومصرة فيما يبدو على تحقيق مطالبها.

فما الذي يحدث في الجزائر؟ وماذا يريد الشعب تحديداً؟ وما السيناريوهات المتوقعة للفترة القادمة؟(*).

يضطرنا السؤال الأول للمرور سريعاً على مسمى “العلبة السوداء” حتى يدرك القارئ الكريم كيف يحكم بوتفليقة الجزائر.

عبدالعزيز بوتفليقة الحاكم الداهية صاحب السياسة الإنجليزية الخبيثة، تواطأ مع فرنسا في بداية حكمه حتى يطمئنها ويطمئن جنرالات الجيش التابعين لها، ثم بدأ تدريجياً في تأسيس إمبراطوريته بعدما أطاح بأجهزة الأمن القديمة واستبدل بها أخرى جديدة يكون ولاؤها له وحده، كون هذه المجموعة من رجال أعمال وعسكر وبعض من أقاربه، فضم أخاه لمؤسسته، وبذلك كوَّن ما سموه بـ”العلبة السوداء”، قرّب بوتفليقة رجال “العلبة” وأمدهم بالصلاحيات اللازمة ثم سلمهم الحكم، ليتحكموا في كل زوايا الوطن الجزائري، يتحرك كل منهم بصلاحية رئيس، ومؤخراً أصبحوا هم “الرئيس الفعلي”، وأصبح بوتفليقة “صورة الرئيس”.

اعتمد بوتفليقة في سياسته على أسلوب “لا تقتل الرجل بل اقتل فكرته”، رغم أنه قتل الاثنين، لكنه عمد إلى جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، وفككها إلى عدة جبهات، وكذلك فتت التيار الإسلامي لعدة تيارات، حتى العسكر لم يسلموا من بطشه حيث أطاح بكل قوة قد يُؤتى من قبلها يوماً واستبقى على “علبته السوداء”، وعندما أراد “رجال العلبة” الاستمرار في اللعبة للعهدة الخامسة بترشيح بوتفليقة رئيساً شكلياً لتبقى الحال على ما هي عليه رفض شعب الجزائر أن ينصاع لهم هذه المرة، ولعل تأثير ثورات “الربيع العربي” الممتد من عام 2010م حتى الآن التي لم يستطع أحد أن يتوقع متى ستنتهي؟ كان عاملاً محفزاً للشعب الجزائري، حيث خرج الشعب في مسيرات سلمية شعبية كبيرة، حشود غير متوقعة، لعل أهم ما يميزها غياب الرعاة الرسميين لأي ثورة وحراك، فبدت شعبية أكثر وليس لها مطامع خفية، انتظرت بعض الجبهات لتراقب هذه الانتفاضة كي تقرر متى ستنقض عليها وتتبناها إلا أنه حتى هذه اللحظة لم يحدث ذلك، وأتوقع أن تستمر كذلك حتى تفرز الجموع الغفيرة المتواجدة في الشوارع والميادين قائداً وموجهاً ورعاة لهذه الانتفاضة المباركة، ماذا يريد هؤلاء؟ إنهم يريدون تداولاً سلمياً للسلطة وانتخابات حرة نزيهة، يرفضون وبشدة العهدة الخامسة، فهم بشر وليسوا قطيعاً، فمن حقهم اختيار من يحكمهم.

أما عن المتوقع خلال الأيام القادمة، فهناك عدة سيناريوهات؛ أولها تفعيل المادة (102)، ثانيها تأجيل الانتخابات بأي حجة، كما اقترح البعض تشكيل حكومة انتقالية تكنوقراطية تجمع كل الأطياف للانتقال من خلالها إلى التداول السلمي للسلطة.

لذلك أعتقد أن بوتفليقة قد ينسحب من هذه الانتخابات (وهو ما حدث بالفعل) في محاولة للسيطرة على الشارع الجزائري، كما أعتقد أن السياسة الأمريكية الراعية للرئيس الجزائري ستسعى جدياً لاحتواء هذه المسيرات خشية تحولها لثورة عارمة، خاصة أن الشعب الجزائري له تاريخ نضالي كبير قدم من خلاله ملايين الأرواح التي تشعره بشيء من العظمة تجاه هذا الماضي، ويعتبره وسام الشرف والتميز، لذلك ستخشى الإدارة الأمريكية من صحوة هذا المارد الأسطوري القديم ومن الأفضل لها احتواء الأزمة مبكراً، كما أن سقوط النظام الجزائري بالكامل قد يشجع الشعوب العربية الأخرى على أن تحذوا حذوهم، وفي اعتقادي أنهم سيسارعون إلى تسريب أخبار وتصريحات خلال الساعات القادمة خاصة بعد الدعوة للإضراب العام كي تُهدئ من ثورة الشعب الغاضب كإلغاء الانتخابات أو انسحاب بوتفليقة أو أي من هذه الأنباء التي بوسعها احتواء الأزمة، وفي النهاية ما يحدث في الجزائر حتى وإن انتهى بتشكيل حكومة جديدة إلا أنه كان “صافرة إنذار” قوية تُعلن أن هذه الشعوب العربية التي خرجت منذ أكثر من تسع سنوات لتقرر مصيرها قد لا تعود إلى حالة السكون قريباً، ومازالت الجولات مستمرة.

 

_______________________________________________________

(*) كُتب هذا المقال قبل أن يعلن بوتفليقة انسحابه من الترشح وتأجيل الانتخابات بساعات قليلة.

Exit mobile version