الأمّ نبع حنان ورائحة جِنان

 

 

كثُرت الكلمات التي تتغنى بالأم وكذلك القصائد الفصيحة والعاميّة، وكلّما كانت الكلمات عالية في الوصف اتّحدت مشاعر المستمعين، ودمعت عيون المفارقين، وحرصت نفوس الممتعين بنعمة وجود الأمّ على برّها والقرب منا، قبل يوم فراقٍ، ينتزع القلب حزنًا، ويجري الدمع دمًا، ويحرق النفس ألما وندمًا، كيف لا وكلنا يستحضر قصة ذلك الذي نزع قلب أمّه ثمّ لمّا تعثّر أشفق القلب عليه، صحيح أنّها قصّةٌ خيالية، ولكنها تعبِّر عن حقيقة قلب الأم، الذي له قاموسٌ خاصٌ، ومعانٍ خاصة، وخيوط عطفٍ لا تدركها كلمات اللغات ولا ألفاظها؛ لأنها تسمو وتحلّق في فضاء ملائكي حاول الشعراء والكتاب التعبير عن جزءٍ منه بكلِّ اللغات ولكن أعلنوا عن عجزهم؛ لأنهم يعرفون قيمة أمهاتهم، فهي الوفاء بل أمه وهي طيفٌ من الجنان.

فأكثر ما يشطر القلب ويصعق صور السعادة فيه أن يودِّع أغلى الناس، وكلّ يوم يلاحقه سؤال هل كنت برًّا بها أم أضعت فرصة الامتحان؟ آهٍ لو كانت تُعلَن هذه النتيجة في الدنيا فصور ذكريات الأم تتجدّد مع دقات القلب وحركة ثواني الزمن بشروق الشمس وغروبها، يرى المفارق أمّه تلوح له مع كل كلمة حنان،  يرى في صفحة الماء، وعلى وجه الشمس وجبين القمر. ويتذكر كلما رأيت القمر تذكّرت أمي وكلما كنت أرى أمي أنسى القمر….

حديثٌ نبويٌّ يزيد وقع ألم الفراق “أمُّكَ ثم  أمّك ثم أمّك” يردّدها ثلاثا وكلما كان الأمر عظيمًا كان النبي يردِّده ثلاثًا تأكيدًا وتنبيهًا؛ حتى إننا لنستشعر أنه يحاول بذلك شدَّ المستمع إلى أهمية القول فخير من تحسن صحبته أمك؛ ولهذا كلما قرأت يا أيها المفارق لأمك هذا الحديث  تجد صدى ذكريات صورك مع أمّك بعد فراقها تتردد مؤكِّدة جمالها وعظمها مقابل تناسٍ منك وتغافلٍ وانشغالٍ… هكذا يعيش من فارق أمه وكان يمنِّي نفسه بأنه لو حصل معه كذا سيبرها بكذا ونسي هذا المغبون أنَّ البر لا ينتظر شرطًا ولا هو بمكافأة على فعل، بل انطلاقٌ ذاتيٌّ دون استعانة بمعين. الأمُّ هي الصفاء الذي يذكّرك برائحة الجنة، رسائل فعالها التي كانت معك على مرّ الأيام لا تُنسى، خاصّة وقت احتياج راسك لقلب حنون، يحمل همّك ويسهر على راسحتك ويمسح على رأسك حتى ولو بلغت الكهولة، لكن لمستها تشعرك بطفولتك البعيدة، وبقوة اليد التي تلامس شعرك، رغم ضعفها، إلا أن قوة عاطفتها تفيض عليك قوة وثقة وطمأنينة واستقرارا.

الأم ليست مجرد مربية ولا مطعمة ولا مرضعة، الأمّ حديقةٌ غنّاء وقت تصحّر روحك، وملاذٌ آمن وقت انقضاض جيوش الهموم والوحدة على قلبك، وسكنٌ لقلبك الملتاع وقت حزنك، وانطلاقةٌ لهمتك وقت كسلك، ونظرة متجدّدة للحياة وقت يأسك هذه بعضٌ من معانيها، وكلّما قلبت فضائلها انسحبت الكلمات حياء من هامتها  معلنةً عجزها عن استيعاب كلّ معانيها، فمعانيها سماويةٌ وحاشا أن تُحيط كلمات الدنيا بما هو سماويٌّ.

فكيف لا يكون مغبونًا من فوّت هذه الصفقة الرابحة كيف لا يكون مغبونًا من حرَم نفسه من رائحة الجنة مُعرِضًا عنها بظلالٍ لا تغني ولا تسمن من جوع ظلالٍ سريعة الزوال… عند فراق الأم تعرف حقائق الأشياء تعرف تلك التي تستعد لسماعك، ولا تحسب وقتها وهي معك تعرف أنّك كلّما اقتربت ازدت حبًّا ومكانةً في قلبها، وكلما ابتعدت زادت في الدّعاء لتجدِّد حبل وصلها… قلبها لا يعرف غضبًا أو كُرهًا لك مهما تماديت… تعتبر جرحك أكثر إيلامًا لها من جرح نفسها، ودمعتك تحرق خدّها قبل أن تتهادى على خدك تفتح لك باب قلبها فلا يُغلق حتى لو كسرتَهُ مراتٍ ومرات…

في رحلة الحياة محطاتٌ كثيرة وكل محطةٍ توجد فيها شواغل وشواغل الدنيا التي ستمزقك هي تلك التي صرفتك مرة عن رسم ابتسامة كانت تنتظرها شفتاها منك، فأعرضتَ لانشغالك بشاغلٍ دنيويٍّ صرفك عن دنياك الحقيقية التي إن أسعدتها هانت كلُّ شواغل الدنيا، بل إسعادُها يمكِّنُكَ من اجتياز كلِّ العوائق فبلمسةٍ من يدها وبضحكة من شفتيها تشع أمامك أنوار الحياة فتبصر طريقكَ وتصبح واثق الخطو.

أصعب امتحانٍ لك عندما تصبح في حياتك شريكةٌ لأمّك فيك، عليك حينها أن تفقه الرسائل جيِّدًا فلا تغيب مع الشريك الجديد وتنسى تلك التي جعلتك رجُلًا، وسعَتْ إلى أن تفتح لك صفحةً جديدةً مع امرأةٍ دعت الله أمك أن تكون من نصيبك؛ مع أنها ستكون شريكةً لأمك فيك، فاحذر أن تسعى لإرضائها على حساب تلك التي سهرت وبكت ومرضت لشوكة تشاكها أو لجرح تجرحه في صغرك قد تظهر لك أمّك استحسانها لفعالك  في إرضاء زوجك، لكن لتعلم أنّ ليالي كثيرة لا يرتدُّ فيها طرفها وهي تستعرض صورك وأنت ترتمي في حضنها وأنت ترمي الطعام وهي تطعمك، وأنت تطلي ثيابك بالألوان وهي تنظف وتضحك تذكر صراخك في وجهها، وكيف تسرع وتضمك وتقبلك معلنةً سعادتها بأنَّك صرت تتكلم… تعيش هذه الذكريات وأنت ناسٍ تلك اللحظات والتفصيلات. الأم من عطائها الكبير تحرم نفسها من لذة قربك؛ لأنها تسعد بأن لك زوجةً صارت بقربك فتُفضِّل سعادتك وتتناسى بُعدَك، لكن لا تنس أنَّ من قال لك أحق الناس بحسن صحابتك أمك ثم أمك ثم أمك ما ردّدها ثلاثا، إلا لعلمه بوحيٍّ من ربه أنَّ هناك أمورًا ستنسيك هذه الصاحبة الصادقة الوفية، فلم يقلها لبلاغة كلام وقد أوتي جوامع الكلم ولا ليؤكّد ظاهرةً لغويًّا وهو أفصح من نطق بالضاد، ولكن ليكونَ بكلِّ مرة قالها تذكيرًا وتنبيهًا لك وقت غفلتك عندما تجد نفسك نسيت، فتتذكَّر أنه قال لك: أمك ثم أمك. وقت حزنها تذكّر أنه قال لك: أمك ثلاثا… وقت رضاها افرح فقد نلت تحقيق وصيته، أمَّا وأنت غافلٌ فمغبون يا عزيزي أنت وخاسرٌ وخارجٌ من دائرة سعادة برّ الوالدة ومجحفٌ بحق نفسك، ستعلم هذا في لحظة فراقٍ لها؛ عندها ستعيش صورها ولكن هيهات لتلك الصور أن تعود فابدأ من الآن وصلها وبرّها وقبِّل يديها تنتعش روحك وتنطلق مهجتك وتحقّق وصية نبيّك.

ولا تدع مشاغل الحياة تخطفك، وتملي لآمالك ولأحلامك وتنتظر، أعلن عن فرحك حتّى لو كنت لا تملك إلا أن تعطيها الابتسامة هديّةً، والطاعة معروفًا، والجلوس معها عرفانًا وتقرّبًا، اجبر قلبها الذي أتعبه النبض شوقًا وخوفًا عليك، و، لن تجد قلبا في الأرض يخفق دائما بذكرك وعينًا لا تجد طعم النوم إلا بعد أن تطمئن على نومك، فالأم نبع الحنان ورائحة الجنان.

  باحث وأكاديمي سوري

Exit mobile version