كان شاباً مليئاً بالحيوية، مفعماً بالنشاط والحركة، محافظاً على الصلاة في المسجد، كريم الأخلاق، عطوفاً طيب العشرة، من عائلة مشهود لها بالصلاح والطيبة، كما كان وسيماً ومثقفاً ويحمل شهادة متوسطة، لكنه كان يعمل عملاً حراً في التجارة يدرّ عليه ربحاً لا بأس به؛ لذا فقد كان أمنية كثير من فتيات العائلة، وبنات الجيران اللاتي يرينه جيئة وذهاباً مِن وإلى بيته المجاور لهن، تمنت كل واحدة منهن أن تحظى به زوجاً وشريكاً لها في الحياة، وكان الآباء يلمّحون أمامه وأحياناً يصرّحون بأنهم يتمنون لبناتهم زوجاً مثله.
أما هي فقد كانت فتاة تصغره ببعض سنوات، من أسرة متوسطة الحال كثيرة العيال، وكانت هي أكبر البنات فيها، لم تكن أكملت تعليمها بعد، تعرف عليها عن طريق بعض الأصدقاء الذين رشحوها له ليتزوجها، رآها ورأته ووجد في نفسه راحة وقبولاً ليرتبط بها بعد أن استخار الله تعالى واستشار أهله الذين رحبوا بها وباركوا هذا الزواج، وتوافد عليهم الأحباب مهنئين داعين بدوام السعد والسعادة، وأن تكون زوجته في الدنيا والآخرة.
مرت عليهما أيام طيبة وقد أشبع زوجته حباً وعطفاً ورحمة ومودة، رفرفت فيها أجنحة السعادة عليهما في عشهما الجديد وقد رزقا فيه بالذرية الطيبة التي زينت دنياهما، كان زوجاً متفاهماً متعاوناً معها خلال هذه الفترة، فقد ساعدها وأنفق عليها من ماله ووقته لتتم تعليمها، بل كان أحياناً رغم تعبه في عمله وانشغاله يجلس بالأطفال ويعمل على راحتها وراحتهم من أجل اختباراتها لتنتهي من دراستها، أما إذا ما أصابتها أي وعكة صحية لا يهدأ له حال ولا يغمض له جفن قلقاً عليها، إذ يعطيها الدواء بنفسه ويسهر على رعايتها وعلاجها حتى تشفى، لم يبخل بشيء عليها يقدر أن يقدمه لإسعادها، بل وإسعاد أهلها، فهو بار بهم وصول لهم منفق من وقته وجهده وماله دون منّ أو أذى.
ومرت الأيام بهما فاتسعت تجارته قليلاً، وكثرت أشغاله، وزادت أرباحه، فما كان منه إلا أن كتب بيته باسمها لتكون مطمئنة البال راضية النفس، أما هي فقد أتمت تعليمها الجامعي والتحقت بوظيفة مناسبة مرموقة وافقها هو على العمل بها ليرضيها، كان يلبي لها كل ما تطلبه لنفسها أو لأهلها دون أن يأخذ من راتبها شيئاً، مظهراً لها أنه سعيد لسعادتها فرح لفرحها.
أنا.. وأنتَ
وسارت بهما سفينة الحياة مع أحداثها السريعة المتغيرة، وقد اعتادت الخروج لعملها كل صباح، وأعطت عملها كل وقتها وجهدها حتى نسيت أنها زوجة وأم! وإذا ما تكلم معها زوجها اتهمته بالجهل وأنه لا يفهم ما تفهم، ولا يعلم ما تعلم، فهي متعلمة، وهو رجل سوق وبيع وشراء! وبدلاً من أن تعترف بفضله عليها في هذا العلم، إذ أعطى وأنفق، وتعب وسهر، وشجّع وآزر، وتغاضى عن بعض التقصير في حقه، لتكون هي هي، لكنها كان كل يوم يمر عليهما يوسوس لها شياطين الإنس والجن أنها غير سعيدة معه، وأنه ليس كفؤاً لها، إنها تستحيي من ذكره أمام زميلاتها في العمل لا سيما بعد أن ترقت في سُلم الوظيفة، ولو عاد بها الزمن إلى الوراء ما تزوجته! كان هذا التفكير يسيطر عليها ويجعلها حادة الطباع معه سليطة اللسان عليه، تقلل من شأنه، ولا تشكره أو تذكر فضله.
ومع مرور الوقت ظهرت علامات النفور عليها صراحة، وكثر انتقادها له وجحودها لأفضاله، ولسان أعمالها يقول له: أنا خير منك، “ما رأيت منك خيراً قط”.
حاول أن يتودد إليها ويتجمل بالصبر لها فيفاجأ منها بالاستنكار، كان يذكّرها بالأيام الجميلة التي قضتها معه ويطلب منها أن يجددا حبهما ويعيشا معاً بشيء من التوقير والاحترام والمودة والرحمة، وأن يكمل كل منهما نقص الآخر، صحيح أنه لم يكمل تعليمه الجامعي لكنه ليس بجاهل، بل متعلم، ومثقف، وقد تعلم في مدرسة الحياة ما لم تتعلمه هي في الجامعة! لكنها كانت تفتعل المشكلات معه، بل وتضحك منه وتسخر.
وفي يوم حزين من أيام عمره، رجع من عمله مبكراً فلم يجدها كما لم يجد أولاده، حاول أن يتواصل معها فلم يفلح، انتظرها طويلاً فقد ترجع، وبينما هو في غمرة القلق إذ سمع طرقاً على الباب فقام ملهوفاً علها تكون هي، ففتح ليتسلم خطاب دعوى قضائية تطالبه فيها زوجته بالطلاق وأن يترك بيته لأنه مسجل باسمها!
إن حال هذه الزوجة الناكرة للجميل قد يحصل ويتكرر في صور أخرى مختلفة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الزوجات من ذلك فقال: “أُريتُ النارَ فإذا أكثرُ أهلِها النساءُ، يَكْفُرن. قيل: أيَكْفُرن باللهِ؟ قال: يَكْفُرن العشيرَ، ويَكْفُرن الإحسانَ، لو أحسنتَ إلى إحداهُن الدهرَ، ثم رأتْ منك شيئاً، قالت: ما رأيتُ منك خيراً قطُّ” (رواه البخاري).
إن عقد الزواج ميثاق غليظ، لكن البعض يظنه كالعباءة يلبسها متى شاء ويخلعها متى أراد! وإن الخلاف بين أي زوجين وارد، لكن الشرع قد أوجد لهما العلاج والحل، وما الطلاق إلا الحل الأخير عند استحالة العشرة دفعاً للضرر المؤكد.
فالصالحات قانتات
ألا وإن المجتمعات لا ولن ترتقي وتصلح إلا إذا صلحت الأسرة، وقد عالج الله ذلك في القرآن الكريم، فكما أمر الأزواج بحسن عشرة النساء والصبر على صحبتهن، في قوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً {19}) (النساء)، فإنه عز وجل أمر الزوجات بطاعة الأزواج، وحسن التبعل لهم والاعتراف بفضلهم، والصبر عليهم، فقال تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) (النساء: 34)، قال الطبري في تفسير الآية: “المستقيمات الدين، العاملات بالخير”، “قانتات” قال قتادة يعني: “مطيعات لله ولأزواجهن”، وقال ابن عباس وغير واحد: يعني “مطيعات لأزواجهن” (ابن كثير).
كما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد استقرار وصلاح الأسرة، بالترغيب والترهيب، فقال للزوجات: “إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت” (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وفي الحديث أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألها: “أذات زوج أنت؟”، قالت: نعم، قال: “كيف أنت له؟”، قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: “فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك أو نارك” (رواه أحمد)، ومعنى: “ما آلوه” أي: ما أقصّر في خدمته وإرضائه، قال المناوي: “انظري” أيتها المرأة التي هي ذات بعل، “أين أنت منه” أي في أي منزلة أنت منه، أقريبة من مودته مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته، أم متباعدة من مرامه كافرة لعشرته وإنعامه، “فإنما هو” أي الزوج، “جنتك ونارك” أي هو سبب لدخولك الجنة برضاه عنك، وسبب لدخولك النار بسخطه عليك، فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية، وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أن النشوز كبيرة. (فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي)، وهنا لا بد لكل زوجة من وقفة جادة وصادقة للنظر في حالها كزوجة، وهل تدخل الجنة إلا بطاعتها للزوج ورضاه عنها.
هل يكون الزوج جنة زوجته أم نارها؟
– إذا كانت الزوجة ناشزاً مترفعة عليه عاصية لأمره ناكرة لفضله عاقة لصحبته.
– إذا جعلت عملها خارج البيت أهم من زوجها وبيتها وأولادها.
– إذا هجرته ومنعته نفسها في الفراش دون عذر شرعي، ولم تعِنه على غض بصره، وتحصين فرجه.
– إذا كانت تخرج من بيته دون إذنه، وتنفق ماله دون علمه، وتهمل ولده وبيته، ولا توقر والديه.
– إذا لم تعِنه على بر أهله وصلة أرحامه، ودعته إلى العقوق والمقاطعة الأسرية ولسان حالها يقول له: إما أنا وإما هم!
– إذا رجع من عمله فلم يجدها، بل ووجد بيته خاوياً من أثاثه وفرشه، ورسالة لطلب الطلاق!
– إذا كانت تطلب الطلاق متى اختلفا وتهدد به كل وقت.
– إذا أرادت أن تتخلى عنه بالطلاق أو الخلع في وقت يحتاج وجودها معه كمرض وشيبة وضعف.
– إذا كانت تتعسف في حقها فتحضر له الشرطة وتودعه السجن باتهامه زوراً “باغتصابها!”؛ طمعاً في بيتٍ أو مال أو لتتخلص منه! (وهذا يحصل في بعض الدول الأوروبية).
– إذا كانت تحرمه من رؤية أولاده إذا ما اختلفا أو حصل الانفصال بينهما.
– إذا كانت أنانية لا تفكر إلا في نفسها ولا تنظر لمصلحة بيتها وولدها.
– هل يكون جنتها وهي تنظر إليه دائماً نظرة النقص، تقارنه بفلان وفلان، وكأنها تريده ذلك الشاب الذي تزوجته منذ زمن، لا يكبر ولا يشيب؟!
– وهل يكون جنتها وهي لا تفتأ تتغنى بكرهه وتطلب مفارقته وبُعده؟ وما علمت أن البيت إن لم يُبْنَ بالحب فهو يبنى بالرحمة.
إن في حياتنا للأسف توجد هذه النماذج التي تدعونا للتوقف والنظر والتصحيح، واستدراك الأخطاء للعودة بالأسرة إلى صلاحها، وجعل الزواج والزوج مرتقى للجنة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألَا أخبرُكم بنسائِكُم في الجنَّةِ؟”، قُلنَا: بلَى يا رسولَ اللهِ! قالَ: “كُلُّ ودودٍ وَلودٍ، إذا غَضِبتْ، أو أُسيَءَ إليهَا، أو غضِبَ زوجُها قالتْ: هذهِ يدِي في يدِكَ، لا أكتحِلُ بغمضٍ حتَّى تَرضَى” (صححه الألباني، صحيح الترغيب)، ومعنى “لا أكتحل بغمض” أي: لا أذوق نوماً.