الصحة تاج لا مثيل له، به تنهض الأمم وتتقدم، ويعيش أبناؤها في عافية وحياة كريمة، فالصحة هي أساس الإنتاج وسر جودته، فبها تزداد إنتاجية الفرد، ومن ثم زيادة القيمة المضافة، فهي تمنح روح العافية في النفوس فيهب نشاطها وتزداد عزائمها ولا تتشتت عقولها، وقديماً قالوا: “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”.
والناظر إلى الاهتمام بالصحة في الدول العربية يجد أن هناك تفاوتاً بين دولة وأخرى، ويبرز ذلك بيانات الإنفاق على الصحة في تلك الدول؛ فوفقاً لآخر بيانات منشورة في التقرير الاقتصادي العربي الموحد (2017م) لصندوق النقد العربي، فإن نسبة الإنفاق العربي على الصحة من إجمالي الناتج المحلي بلغت نسبة 5.3%، وهذه النسبة تقل كثيراً عن المتوسط العالمي الذي تبلغ نسبته 9.9%.
تُصنَّف الدول العربية إلى مجموعتين من حيث درجة الاعتماد على القطاعين العام والخاص في الإنفاق على توفير الخدمات الصحية، وإن كان القطاع العام يستأثر بالجزء الأكبر في تقديم الخدمات الصحية في غالبية الدول العربية، حيث تبلغ نسبة الإنفاق العام من إجمالي الإنفاق على الصحة في الدول العربية عام 2015م حوالي 60.7%، وهذه النسبة تزيد عن مثيلاتها في باقي الدول النامية، وإن كانت -في الوقت نفسه- تظل متدنية مقارنة بسائر الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ويعكس هذا ما تتسم به الخدمات الصحية الحكومية في الدول العربية من ضعف منظومة العلاج الحكومية وأدائها، حيث يتولى القطاع العام مسؤولية قطاع الصحة في 14 دولة عربية، وهو ما يظهره الجدول المرفق في التقرير الاقتصادي العربي الموحد لصندوق النقد العربي:
ويتضح من خلال الجدول السابق، فإن نسبة الإنفاق الحكومي العام إلى إجمالي الإنفاق الحكومي الخاص على الصحة عام 2015م تراوحت ما بين 56.7% في تونس، و89.8% في سلطنة عُمان، وتضم هذه المجموعة مع هاتين الدولتين باقي الدول العربية فيما عدا السودان وسورية والصومال وفلسطين وجزر القمر ولبنان ومصر والمغرب وموريتانيا واليمن التي تراوحت فيها هذه النسبة بين 21 و 50%.
كما يبرز الجدول السابق أيضاً نطاق الخدمات الصحية، حيث تجاوزت عام 2015م نسبة السكان الذين يحصلون على الرعاية الصحية حوالي ٩٥% في كل من الأردن والإمارات والبحرين والجزائر والسعودية وسورية وسلطنة عُمان وفلسطين وقطر والكويت ولبنان وليبيا ومصر، بينما بلغت هذه النسبة حوالي 90% في تونس، و85% في العراق، و75% في المغرب، و61% في جيبوتي، و53% في اليمن، وأقل من 50% في كل من السودان والصومال وجزر القمر وموريتانيا، كما يكشف الجدول السابق أيضاً أن مؤشر الرعاية الصحية يتفاوت بين الريف والحضر لصالح الحضر.
ومما يلفت النظر أنه رغم توسع العديد من الدول العربية في الرعاية الصحية، فإنها تفتقد إما إلى اليد البشرية الماهرة، أو الآلات الطبية الحديثة، أو الأبحاث العلمية المطلوبة، حتى باتت جودة الخدمات الصحية في الدول العربية يغلب عليها الفقدان، وبات الشعار المرفوع في بعض الدول عن المستشفيات الحكومية “الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود”! وهو واضح جلي من التوجه للعلاج للخارج لاسيما في دول الخليج ذات الثروة النفطية.
وقد كشف الجدول السابق عن عدم كفاية الكوادر الطبية من أطباء وممرضين مقارنة بعدد السكان، وهو الأمر الذي يمثل عائقاً أمام تحسين الخدمات الصحية، حيث يتراوح عدد الأطباء لكل مائة ألف نسمة بين حوالي 3 أطباء في الصومال، ونحو 307 أطباء في لبنان، ويواجه كل من اليمن وموريتانيا والمغرب وجزر القمر والصومال والسودان وجيبوتي والأردن ندرة كبيرة في الطواقم الطبية، إذ يتراوح فيها عدد الأطباء والممرضات لكل مائة ألف نسمة ما بين 3 – 65 طبيباً، وما بين 8 – 105 ممرضات.
كما تعاني الدول العربية -باستثناء جيبوتي وجزر القمر- من ارتفاع عدد السكان مقابل كل سرير، إذ يصل فيها العدد إلى حوالي 1408 أشخاص في اليمن، ليرتفع إلى حوالي 2111 و2500 شخص في مصر وموريتانيا على التوالي، في حين يتراوح هذا العدد في الدول العربية الأخرى باستثناء المغرب والسودان والصومال بين حوالي 270 و870 شخصاً في ليبيا والإمارات على التوالي، وهذا يعكس حجم المعاناة الصحية في العديد من الدول العربية، لا سيما في ظل التوجه نحو تخفيض الحماية الاجتماعية في الدول التي سارت خلف روشتة صندوق النقد الدولي، وهو ما جعل تكلفة الخدمة الصحية باهظة الثمن لا سيما في ظل الأمراض المستعصية، وعدم قدرة البعض على تحمل تكاليفها، كما أن عدداً من دول الخليج قصَرت الخدمة الصحية المجانية على مواطنيها؛ وهو ما عرَّض القاطنين فيها –خاصة محدودي الدخل- إلى الوفاة لعدم قدرتهم على تحمل التكاليف.
ومما يزيد وضع الحالة الصحية العربية وضوحاً معدل وفيات الأطفال باعتباره مؤشراً جيداً لقياس كفاءة النظام الصحي لارتباطه بالوقاية والاستشفاء، فحملات تلقيح الأطفال ونوعية المياه وجودة الصرف الصحي وتوفير الرعاية الصحية للأمهات وقت الحمل والوضع يؤثر تأثيراً مباشراً على معدل وفيات الأطفال.
وقد كشف التقرير الاقتصادي العربي الموحد لصندوق النقد العربي (2017م) أن معدل وفيات الأطفال الرضع في الدول العربية بلغ حوالي 27 حالة وفاة لكل ألف مولود حي في عام 2015م مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يمثل 32 حالة وفاة لكل ألف مولود حي، ومع ذلك يبقى هذا الوضع مرتفعاً قياساً بمعدل الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة الذي لا يتجاوز 11 حالة وفاة لكل ألف مولود حي.
وبالنظر إلى هذا المعدل بصورة فردية للدول العربية، نجد أنه انخفض دون 10 حالات وفاة لكل ألف مولود حي في الإمارات والبحرين وسلطنة عُمان وقطر والكويت ولبنان، كما بلغ معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة في الدول العربية نحو 35 حالة وفاة لكل ألف مولود حي، وهو ما يقل عن مثيليه في “الدول النامية” و”دول العالم” حيث بلغا على التوالي حوالي 84 و42 حالة وفاة لكل ألف مولود حي، بينما لا يتعدى هذا المعدل 6 حالات وفاة لكل ألف مولود حي في الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة.
وبذلك تكشف هذه البيانات أن الخدمة الصحية في البلدان العربية -وإن تفاوتت فيما بينها- ولكنها ليست بالقدر المأمول الذي يحقق للإنسان العربي المكانة الصحية الخاصة به، وقد آن الأوان للدول العربية أن تحقق الحماية الصحية لأبنائها بصورة تحقق لهم التكريم والتفضيل الذي أراده الله لهم، مع عدم ترك المريض فريسة للمرض في أي دولة عربية ولو كان وافداً، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: “من بات منكم آمناً في سربه معافاً في جسده عنده قوت يومه كأنما حيزت له الدنيا” (رواه الترمذي).