الفرنكفونية أو الاستعمار الجديد

في 11 و12 أكتوبر 2018م عقدت في العاصمة الأرمينية، يريفان، القمة الفرنكفونية ، في دورتها الـ 17 بمشاركة أكثر من 80 دولة وحكومة و57 عضواً و23 مراقباً.
وقد لفت الرئيس الفرنسي ماكرون الأنظار من خلال حديثه عن الظلامية في تونس، والإشادة بالرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، لكنه تمادى في التدخل في الشأن التونسي الخاص من خلال الدعوة إلى إنفاذ تقرير الفساد والإفساد، المسمّى زورا ” تقرير الحريات الفردية والمساواة” وهو ما أدى إلى ردود فعل مختلفة ودعوات للخروج من هذه المنظمة التي تكرّس الاستعمار الجديد، لا سيما وأن منظمة” الفرنكفونية ” خلاف ما يروّج لها أحد أبرز النماذج للاستعمار الجديد، فالديمقراطية، والسلام، والمساواة، ليست حكراً على فرنسا، ولا الفرنكفونية ، تماماً كالتنمية، والثقافة، وتبادل الخبرات.
كما أن اللغة الفرنسية ليست شرطاً للعلوم ولا للتقدم في المجالات الإدارية، والاجتماعية و الاقتصادية، بل هي شكل جديد للإمبراطورية الفرنسية، أو بالتعبير المعاصر، بعد الجلاء العسكري وتنصيب وكلاء محليين، الامبريالية الفرنسية.

استعمار جديد
وكان الرئيس الفرنسي تعرض في خطابه الافتتاحي لقمة الفرنكوفونية التي انعقدت يومي 11 و12 من الشهر الجاري بالعاصمة الأرمينية يريفان، إلى الجدل الدائر في تونس منذ فترة بخصوص لجنة الحريات الفردية والمشروع الذي اقترحته والمتعلق بتغيير بعض القوانين ومنها قوانين تتعلق بالإرث وبزواج المثليين. ووصف الرئيس الفرنسي رافضي التقرير بالظلاميين، الذين تجب محاربتهم والانتصار عليهم.

وكانت تونس شهدت ردة فعل شعبية كبيرة مدعومة بما يشبه انتفاضة للعلماء حيال ما جاء في التقرير سيئ الذكر من توصيات، وهي ردة فعل فاجأت بقوتها واتساعها المشاركين في إعداد الوثيقة ومن يقف وراءها، ولم تعلن حركة النهضة موقفاً واضحاً ورسمياً مما جاء في هذه الوثيقة.. وقالت إن الامر متروك للشعب، وقواه الحية، وممثليه في البرلمان.
وكانت قيادات الحركة قد شددت على أن النهضة لن توافق على قوانين تصادم هوية الشعب وتتعارض مع ما رسخ فيه من قيم.

وبدا موقف العلمانيين واليسارين مهلهلاً وضعيفاً أمام ردة الفعل الشعبية تلك.. في المقابل بدت تصريحات ماكرون الأخيرة بمثابة الانتصار لهذا التيار وهزّا لمعنوياته خاصة عندما دعا ماكرون إلى مساندة الباجي قائد السبسي، والوقوف إلى جانبه في “معركته”.. ورحبت العديد من الاوساط العلمانية واليسارية الخاضعة للهيمنة الفرنسية، والتي لم يعرف لها نضال ضد الاحتلال الفرنسي، ولا انخراطاً في المنظمات الوطنية قبل الاستقلال، كاليسار، بخطاب ماكرون، واعتبرته مفخرة لرئيس الجمهورية، وأشادت العديد من صحفها بهذا الخطاب واعتبرته انتصاراً على خصومها، بينما رأى آخرون وهم أغلبية النخبة والشعب أن الخطاب تدخل سافر في الشؤون الداخلية لتونس، ويجب رفضه وعدم السماح به.

تدخل غير مقبول
إلى جانب الحملة المسفهة للرئيس ماكرون، والمنددة بتدخله في الشؤون التونسية، على مواقع التواصل الاجتماعي، ندد مثقفون وسياسيون بالتدخل الفرنسي في القمة الفرنكفونية في الشؤون التونسية، فقد أدان الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، بشدة، ما اعتبره تدخلاً “فظاً” من قبل الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون، في الأوضاع الداخلية لتونس، ” في ظل أزمة خانقة وعلى أبواب سنة انتخابية”، وشدد زعيم الحزب الجمهوري على أن هذا التدخل “مرفوض بكل المقاييس الديمقراطية و الوطنية”. وأكد الشابي أن تونس نالت “استقلالها” عن فرنسا سنة 1956 وعادت السيادة للشعب بفضل ثورة الحرية والكرامة و لم يعد مقبولا لأي كان وتحت أي غطاء كان إقحام نفسه في الشأن الداخلي التونسي . وشدد على أن “خلافاتنا وان احتدت نحتكم فيها للدستور لحلها ونعود إلى الشعب لحسمها ولا نسمح لأي جهة أجنبية التدخل فيها” موضحا أن “شعارنا هو العزة لتونس و الكرامة للمواطن”.

هيمنة مرفوضة
وتؤكد السياسات الفرنسية حيال ( الدول الفرنكفونية ) أن ” الفرنكفونية ” تضع البلدان الواقعة تحت هيمنتها ضمن المجال الامبريالي الفرنسي، أو بالتعبير الشائع ّ الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ” أي سوق للدولة المهيمنة التي هي فرنسا.. وهي هيمنة لا تقف عند نهب الثروات وفرض السياسات بل تتعداها إلى المجال الثقافي بالعمل على فرض النموذج الفرنسي للحياة والنمط المجتمعي السائد فيها، حتى تتماهى تماما معها ، وتصبح أكثر خنوعاً وخضوعاً لإملاءاتها المختلفة.


وقال المفكر والشخصية الاعتبارية التي تحظى بالاحترام في تونس، محمد مواعدة، لـ “المجتمع”: يكتسي خطاب الرئيس الفرنسي، أهمية بالغة وخطورة كبيرة، وذلك في مستوى الشكل، وفي مستوى المضمون .أما مستوى الشكل فكان خطابا مرتجلا وكان صاحبه متسرعا في القائه كما كان على حالة من التوتر والتشنج بادية للعيان.. وهذا أضاف معاني عديدة ومضامين أخرى للخطاب.


واعتبر مواعدة ما جاء في خطاب ماكرون، إساءة للرئيس الباجي وليس دعما له” لأن التعامل مع رؤساء الدول يكون وفق بروتوكول معروف ولا يكون بذلك الأسلوب”. في حين وجدنا الرئيس الفرنسي كما يقول مواعدة، وتحديدا ما تعلق منه بتونس” كما لو كان يخاطب الشعب الفرنسي”. أما في مستوى المضمون فيتضمن خطاب ماكرون عدة قضايا أهمها الاشارة إلى تونسيين بوصم الظلامية وهو خطأ فاحش، لا يقبل من رئيس فرنسا لأن الخبراء الباحثين الفرنسين في الساحة الاسلامية أكدوا مرارا على أن الحركة الاسلامية الوسطية شهدت تطورا كبيرا وكان لها ودورها في تطوير الفكر الاسلامي الحديث ، وبالتالي وصف الحركة الاسلامية بالظلامية خطأ فاحش يدل على جهل الرئيس الفرنسي لما يحدث في الساحة الاسلامية، أو تجاهلا منه لذلك، وفي كلا الحالتين مرفوض. وتابع” من المعلوم أن خطأ من هذا النوع له أبعاده وتبعاته خاصة وأن المتحدث رئيس دولة وليس أي كان.

أما القضية الثانية التي عالجها الرئيس الفرنسي فهي تتمثل في الدعوة إلى اعتماد تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، و” هو أيضا خطأ فاحش أيضاً لأن ذلك التقرير يهدف مع الأسف إلى أن تخرج المرأة والعائلة التونسية من إطارها الحضاري وتنتقل إلى الاطار الغربي، فهل يفكر الرئيس الفرنسي أن نصل في تونس إلى الزواج المثلي كما هو الحال في فرنسا وبعض الدول الأوروبية وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة فالمرأة التونسية متمسكة بهويتها والعائلة التونسية متمسكة بهويتها وهنا تبدو خطورة الفرنكفونية بالمفهوم الأنثروبولوجي والثقافي وهذا ما يضفي على الخطاب توجها فكريا استعمارياً ثقافياً “.

ووجه مواعدة رسالة لماكرون” ليتأكد السيد ماكرون أننا قاومنا الاستعمار السياسي والعسكري وسنواصل المقاومة بصورة أشد الاستعمار الفكري والثقافي. وسنتصدى إلى هذا التيار بكل قوة ، وبكل صلابة، لأنه يتعلق بهوية أبنائنا وبناتنا، وبهوية شعبنا”.

وختم قائلاً: “هذه الهوية العربية الإسلامية التي عبر شعبنا عن تمسكه بها خلال المدة الماضية بمجرد نشر مضامين تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة “.

Exit mobile version