في ذكرى استشهاده.. هل عقمت النساء أن ينجبن مثل عمر المختار؟!

رحم الله المخرج الرائع مصطفي العقاد.. الرجل الذي أنصف بفيلمه الرائع “عمر المختار” رجلاً من أعظم القادة ومقاتلاً ومجاهداً من أشرف المقاتلين الذين عرفهم القرن العشرون. 

كان عمر المختار في مدينة الكفرة بقلب الصحراء في زيارة إلى السنوسيين عندما علم بعدوان الإيطاليين الذي بدأ في أكتوبر 1911، عندها لم يتردد في العودة إلى زاوية القصور لتجنيد أهلها من قبيلة العبيد لمقاومة الإيطاليين، وظل يقود المعارك ضد الطليان تحت إمرة أحمد الشريف السنوسي، الذي سلم بدوره القيادة للأمير محمد إدريس السنوسي الذي أصبح قائد المقاومة الليبية، وعين الشيخ المختار نائباً له.

بدأ بحرب المعتدين الإيطاليين وهو يبلغ من العمر 53 عامًا لأكثر من عشرين عامًا.. لله درك أيها البطل.. هلا تعلم أهل هذا الزمان من بعض جهادك؟!

خاض أكثر من ألف معركة

هلا تعلمنا من رجل جاهد طويلاً ضد مجرمي إيطاليا، وكما يقول د. علي الصلابي: “كبدهم خسائر فادحة في أكثر من ألف معركة خاضها ضدهم في عشرين عاماً.. وفاوضوه وحاولوا إغراءه في مرات عديدة لكنهم فشلوا، فقد كان يقابلهم بجملة واحد هي: “ارحلوا من ليبيا كلها”.

وفي أحد الاجتماعات مع الإيطاليين، قال أحد الرُسل محاولاً أن يُغري عمر المختار براتب شهري ومنافع تمنحها له إيطاليا ومحاولاً إقناعه أن جهاده ينافي مبادئ دينه الإسلام بقوله: “إن شريعة الإسلام لا تسمح لكم بهذه الحرب التي لا طاقة لكم بها، وإن نبيكم لا يسمح لكم بمقاومة الدولة التي لا تقدرون على مقاومتها! وإن الحكومة تتعهد بأن تدفع لكم رواتب شهرية لكم ولأتباعكم، إن أنتم سلمتم سلاحكم ودخلتم تحت حكمها”.

فقال: “أنا أعلم بديني.. وأنا أعلم أنك ارتكبت من الشدة مع الأهالي الخاضعين لكم ما دلَّ على أنك لا تريد الخير لهذه البلاد ولا لحكومتك نفسها، واليوم تطلب منا تسليم السلاح وتهددنا بجيوش حكومتكم في مجلسٍ أنت دعوتنا إليه للتفاهم بما يحل هذه المشكلة بيننا وبينكم.. والقوة التي تُلوّح لنا بها، عرفنا آخر ما عندكم منها، وقد جابهناها على مدى ثماني عشرة سنة وما زلنا بعون الله كما كنّا”.

وتمت محاولة إغرائه أيضاً في مفاوضات سيدي أرحومة في التاسع عشر من يونيو عام 1929، حيث قال الرسول الإيطالي: “لقد جئتُ للاتفاق معكم على ما يكفل راحة البلاد، وإنّني مسرور بهذا الاجتماع الذي عقدناه لإنهاء حالة الحرب التي منعت العمران الذي جئنا إلى هذه البلاد من أجله، ولولا حضورنا لرأيت بلادك في حالة أخرى لم تخطر ببالك”.

فقال عمر المختار: “صحيح إن البلاد كانت ستكون في حالة أخرى لولا هذه الحروب، فلولاها لما رأيتَ فيها عربياً يمشي على وجه الأرض بل كنت سترى فيها الإيطاليّين وحدهم يعمرّونها ويحلون محلّ العرب في دورهم ومنازلهم وأراضيهم”.     

ولم يفت في عضده مفاوضة أستاذه وشيخه السنوسي للإيطاليين وعقده صلحاً معهم، ثم ذهابه أو هروبه إلى مصر بذريعة العلاج ولم يكن مريضاً، وقد تبيَّن فيما بعد عند زيارة عمر المختار له هناك أنه كان بصحَّة جيدة، لكن بعد رحيل إدريس ومع اندلاع الحرب مجدداً في المنطقة أصبحت مسؤولية القيادة كلّها ملقاةً على عاتق عمر المختار، فأصبح هو زعيم الحركة الجهادية في منطقة الجبل الأخضر، وبات يجمع المال والسلاح ويحرّض القبائل ويترأس الهجمات ضد الطليان في برقة.

وقال لرفاقه المجاهدين الأبطال بعد هروب البعض: “إخواني وحق كتاب الله هذا النصر لنا لا ريب فيه، ولكني لا أستطيع إخباركم على أنني سوف أحضره أم لا، الله هو الذي يعلم وأنا عمري ثمانون عاماً، وهذا جرحي في رجلي من حرب الفرنسيّين، وأقسم لكم بالله على أنني لن أذهب إلى مصر ولا أتحرك من الجبل الأخضر حتى الموت أو النصر”.

“وأشهد الله عليكم إنكم في حل من الذهاب إلى مصر أو تسليم أنفسكم للعدو أو الاستمرار معي في جهاد العدو”.  

سقطت نظارة الأسد المسن في إحدى معاركه في عام 1930  وعندما وجدها أحد جنود الطليان وأوصلها لقيادته، رآها جرتسياني قائد الإيطاليين فقال: “الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يوماً ما”.

وبعدها بعام وبينما كان البطل المجاهد عمر المختار يستطلع منطقة سلنطة في كوكبة من فرسانه، عرف الأعداء الإيطاليون بمكانه وأرسلوا قوات ضخمة لحصاره، لحقها تعزيزات، واشتبك الفريقان وفي أثناء المعركة قُتل فرسه وسقط البطل أسيراً في أيدي أعدائه الذين أذاقهم ألواناً من الهزائم.

ولما علم  جراتسياني بأسره أصيب بحالة هستيرية وكان تارة يجلس على مقعده وتارة يقوم، وأخرى يخرج متمشياً على قدميه محدثاً نفسه بصوت عال، وهو يشير بيديه ويقول: “صحيح قبضوا على عمر المختار؟ ويرد على نفسه لا، لا أعتقد”.

ولم يسترح باله فقرر إلغاء إجازة كان من المقرر أن يقوم بها واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في نفس اليوم وطلب إحضار عمر المختار إلى مكتبه لكي يراه بأم عينيه.

وصل جرتسياني إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر، وأعلن عن انعقاد “المحكمة الخاصة” يوم 15 سبتمبر 1931م.

وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب جرتسياني في الحديث مع عمر المختار، كما يذكر في كتابه “برقة المهدأة”: “وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالَجَرِدْ) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح”.

جرتسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟

عمر المختار: من أجل ديني ووطني.

جرتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟

عمر المختار: لا شيء إلا طردكم.. لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله.

جرتسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك أن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟

عمر المختار: لا يمكنني أن أعمل أي شيء.. نحن المجاهدين سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر، ولا نسلم أو نلقي السلاح.

ثم يكتب جرتسياني: “وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء، ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء.”

وفي اليوم التالي 15 سبتمبر تم الحكم على عمر المختار بالإعدام في محاكمة هزلية من المحاكمات التي تمتلئ بها سجلات الغاصبين في كل زمان ومكان.

وفي يوم السادس عشر من سبتمبر نفذ فيه حكم المحتل المجرم الغاصب أمام 20 ألفاً من أبناء الشعب الليبي، وجاؤوا بجميع المعتقلين السياسيين خصيصاً من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم.

تقبل الله شيخ المجاهدين المسلمين شهيداً فذاً ملهماً مازال وسيظل.

وصف رودولفو جراتسياني عمر المختار بأنه أسطورة الزمان الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الأسر، واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام؛ لأنه الرأس المفكر والقلب النابض للثورة في ليبيا، والآن وقع أسيراً في أيدينا.

وقال عنه أيضاً في مذكراته: “مفتاح شخصية عمر المختار الفذة أنه آمن بالله، واستقرت معانيه في قلبه، فأصبح لا يخشى إلا الله، وهذا الصنف من المسلمين هو أقوى ما عرفته البشرية؛ وهو الإنسان الحر في أعلى معاني الحرية”.

والفضل ما شهدت به الأعداء.

لو كان في الغرب أبطال من عينة عمر المختار المقاتل العبقري والمفكر الفذ لصدع الغرب رؤوسنا بسيرته، ولحاصرنا بأفلام ومسلسلات عن حياته منذ ميلاده وحتى مماته، ولحفظ أبناؤه وأبناؤنا أسماءه وصفاته، ولسمى به شوارعه ومطاراته ومنتجاته!

ويا مختار، مازالت لإيطاليا، بل ولفرنسا التي جاهدتها قبل أن تجاهد إيطاليا، كلمة نافذة في مصير ليبيا، وغير ليبيا!

في مثل هذا اليوم أعدمك المجرمون، وانتقلت روحك إلي بارئها، ولكنك لم تفارقنا ولن تفارقنا بذكراك العطرة وجهادك المجيد!

ما زلنا نذكرك وما زلنا نجاهد يا عمر!

 

المصادر:

1- الصلابي، عمر المختار.. شيخ المجاهدين والشهداء.

2- عبدالله صالح الجمعة، عظماء بلا مدارس.

3- ويكي الاقتباس، عمر المختار.

Exit mobile version