ليلة الحصاد (قصة قصيرة)

تنغرس في فراشي أشواك أشبه بما وصفته آيات الذكر الحكيم برؤوس الشياطين؛ كلما تقلبت أصابتني، مثلت لي الأهوال حجرا وراء تلة من معاناة لا نهاية لها، استجمعت قواي، استعدت أوراد الليل حين تختلط به الوحشة، تقترب مني ثعالب ماكرة؛ تنعب الغربان في الظلام، بدا لي أنني بلا حذاء، حتى إن عيني صارتا أشبه بعيني الضفدعة في بركة الماء اﻵسن، خايلتني امرأة نافرة الشعر؛ ينزف ناباها دما غطى ثدييها المتخشبتين، أشبه برجل أحدب الظهر كريه المنظر، مشاهد رعب متراكبة، بيدها اليمنى خطاف ينهش لحمي. تعوي الكلاب الضالة في عناد لا ينتهي، صدى كل هذا مقارع من حديد تصم أذني؛ الوحشة تتغلغل داخلي، فوضى تلتهم ورد الصباح، تترك الأمكنة معطوبة، رائحة كريهة تنتشر في سرعة البرق، تحوم نذر الشر، أي ليل هذا؟

أجهش بالبكاء، يلازمني العجز؛ لا أقوى على بلع ريقي؛ صار حلقي أرض بور ضربها الجفاف.

فالنهر مصاب بالموات، ما عاد يرفده أبيض ولا أزرق، حتى حكايات أبي مشوشة، ” أبوزيد” باع أرضه واشترى ماكينة -كما تمنى للطحين- لكنها كانت خدعة من الخواجا؛ صارت تغني وتدندن بآهات الغرام الذي لا يطعم بطنا ولا يزرع حقلا؛ كأنك يا أبا زيد ما غزيت!

يطلب مني قطعة كعك محشوة بالزبد؛ فله سنوات يشتهي هذا؛ جيبي مثقوب، زوجتي تعلن غضبها؛ أطفالها أولى، في خفاء تسللت إلى علبة الأطفال، أطعمته واحدة على أمل أن يرفدني بحكاية أسامر بها في ليلة الحصاد الذي خابت سنبلاته؛ في كل واحدة حبة يتيمة؛ يبدو أن الساعة على موعد بل هي أقرب للناظرين.

وقفت ساعة الحائط المشبع برطوبة، تنمو جواره أعشاش فطر بري، كل هذا والليل ساكن بعد معركة خلفت أشلاء أطفال صغار، مذياع ينشر أكاذيب، مقالات سوداء، واجهة البيت شعارات سوداء، ألسنة حداد تغلغلت في شرفات البيت، بطون إخوتي أطعمت زيفا، يبدو أن حصاده أخرج دابة الأرض.

يتناهى إلي من بعيد تحت غبشة الظلام صوت يشق الصمت ويقتل الضعف داخلي” لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا” أشعر ببعض طمأنينة تسكن نفسي، جاء أوان قطف ثمار عمل متواصل.

لست طامعا في غير بعض حاجيات صغيرة: ثوب جديد يستر جسدي؛ لقد شبعت إبرة الحياكة من لطم مخلفات اشترتها زوجتي من سوق الجمعة؛ حيث تتراكم عاديات عفى عليها الزمن، أليس من حقي زجاجة عطر مثيرة في ليلة مخملية؛ سيما وكل زملاء العمل يمنون أنفسهم بمثل هذا.

أطفالي يعشقون البسكويت محشوا بالمكسرات. في بيتي هذا الذي تشبع برطوبة سكنت جسدي وروحي لا نهاية لرحلة الآلام التي تتواصل كل آونة.

أليس من حقي أن أختزن نقودا أتوكأ عليها في سنوات الخريف الذي باتت نذره قريبة جدا؟

هذه أشياء صغيرة لكنها ذات أثر في حياتي؛ لا يمكن أن أظل هكذا عاطلا من رغبات الحياة، ثمة حاجات لا تحكى لكنها تلح في أن تجد لها منفذا تعبر من خلاله إلى ردهات الزمن.

تغيم ذاكرتي تحت أستار كثيفة من خيوط العنكبوت؛ تخرج رائحة كريهة من جحور تسكنها جرذان عرفت طريقها إلى مخدعي.

تخترق موسيقى مذياع قادمة من مقهى ليلي لا يعرف شروق الشمس، صارت المدينة التي بلا قلب علب ليل.

نساؤها لا طعم لهن، حقا صارت دمى من البلاستيك، لا حاجة بي إلى تلك المعاصي؛ يكفي ما أنا فيه من رهق وعنت.

أخذتني الحيرة، نشوة رخيصة أم ليلة ذابلة، طرقات على الباب تتوالى في إصرار، الساكن في قلعة الجبل يطلب مكوسا جديدة، على من يتنعم بالأحلام عليه أن يدفع عوض أثير الخيال.

Exit mobile version